لم تعد وسائل الإعلام مجرد سلطة مضادة، ولا حتى سلطة رابعة، على ما كانت توصف حتى عهد قريب. بل لقد أصبحت في زمننا هذا وكأنها هي السلطة الأولى: التي تغزو العقول وتعيد تنميطها وتشكيل وعيها وتتحكم فيما ينبغي أن تعرف، وما لا ينبغي أن تعرف! وأخطر من هذا أن سلطة الإعلام باتت تمارس نوعاً من السيطرة والسطوة على السلطات الأخرى في المجتمع، الثقافية، والسياسية، والقانونية، بحسب ما يذهب إليه الكاتب والمنظِّر الإعلامي الفرنسي جان- إيف لوغالو في كتابه: «الطغيان الإعلامي»، الذي يطرح فيه بعض إشكالات الممارسة الإعلامية اليوم، في سياق عالمي عام، وفي سياق فرنسي خاص، مبرزاً مدى تفاعل المهنة الإعلامية مع الواقع الذي يكتنفها ويستهلك إنتاجيتها، وفي الوقت نفسه القدرة غير العادية التي أصبحت وسائل الإعلام «الميديا» قادرة بها على فرض أنماط من القيم والسلوك وأشكال من المعرفة والوعي، تستطيع معها أحياناً تزييف الحقائق، وتسويق وتسويغ حقائق مضادة، مشكوك في صحتها إلى حد بعيد. تساعدها على ذلك قوة تأثير وانتشار الثقافة السمعية البصرية، وكثافة التواصل، وفرط السرعة التي توفرها تقنيات الاتصال العولمية، بما يجعل الجمهور العريض يعايش الأحداث، في وقتها الحقيقي. مع إزاحة أي تأثير للبعد المكاني، وأيضاً دون أخذ مسافة أمان زمنية، مما يجري، لفهم على حقيقته في كليته وشموليته. وفي البداية يقول الكاتب إن معظم الصحف، والإذاعات، وقنوات التلفزيون، وحتى بعض المواقع الإنترنتية الإخبارية التي تغذى على المباشر، كلها غير مستقلة، ولا حتى حرة، على رغم ادعاء جميع وسائل الإعلام تقريباً، وصلاً بالاستقلالية والحرية. وذلك لأن وسائل الإعلام تتبع بدرجات قد يزيد الشعور بها أو يقل من يتحكم في تمويلها، أو من يسهم في هذا التمويل، كجهات الإعلان، والبنوك، كما تسلبها قدراً كبيراً من الحياد والموضوعية ميول الجسم الصحفي نفسه، والأحكام المسبقة التي تستبطنها قاعات التحرير، وتتخذها أحياناً كمساطر نشر وبث، معلنة، أو ضمنية. ومن هذا التحالف بين رأس المال الكبير والفكر الأحادي المتفشي في قاعات التحرير، تظهر مثلاً توجهات طاغية في الصحافة الفرنسية من قبيل مناهضة إيديولوجيا العولمة، أو الدفاع عنها بحماس مفرط، ودون قيد أو شرط. ومن وراء ذلك الدفاع عن انفتاح الأسواق، أو مناهضتها وتهيئة الرأي العام لاتخاذ موقف سلبي منها باعتبارها مسؤولة عن الاضطرابات والأزمات المالية والاقتصادية. ويرى الكاتب أن أول شرط لوقف تزييف الحقائق وأدلجة الإعلام وفرض أجندات الممولين والمعلنين عليه، هو تفكيك الآليات الخفية المؤسسة لواقع هذا الإعلام المختطف، ومن ثم السعي لإلزامه بحدود ومساطر المهنية والحيادية كلما أمكن ذلك. وفي حالة فرنسا تحديداً لابد من مقاربة أكثر حنكة لكشف الترابط الخفي بين توجهات الإعلاميين ومخرجات الإنتاج الإعلامي نفسه. وقد أثبتت دراسة إحصائية مثلاً أن نسبة حضور التعاطف مع اليسار الفرنسي مرتفعة في صفوف الجسم الصحفي، ولذلك تجد فيه حركات المناهضة للعولمة، والانفتاح الاقتصادي الرأسمالي العالمي، أصداءً واسعة، ويتم ضخ رسائلها الإعلامية، والإيديولوجية، على أوسع نطاق، ويقدم ذلك أحياناً تحت يافطات ولافتات سيادية، ووطنية، وبزعم الدفاع عن الخصوصية، إلى آخر ما هنالك. وفي مواجهة هذا الطغيان الذي تمارسه وسائل الإعلام باعتبار تحكمها في ضخ الأخبار، والمعلومات، وتمكنها من خلق المزاج الشعبي والرأي العام، بحسب ما تكون هي عليه من توجهات، يرى الكاتب «جان إيف لوغالو» أنه لابد من العمل لاستعادة أكبر جرعة من المهنية في العمل الإعلامي، وإعادة التفكير والتذكير بأن مهمة الإعلام الأصلية والأصيلة هي توصيل المعلومة والخبر كما هما، وليس صناعتهما أو المساهمة في تشكيلها، وتشكيل ردود الفعل عليهما أيضاً. ومن هنا فإنه لابد من الاشتغال على كل ما من شأنه احتواء خطر الانحياز والتوظيف الإيديولوجي في وسائل الإعلام، وذلك من خلال تنمية التفكير النقدي لدى الجمهور المتلقي للرسالة الإعلامية، بحيث يصبح قادراً على التمييز بين الصالح والطالح مما يتم ضخه لحظياً وإغراق الفضاء السمعي البصري به. كما لابد أيضاً من إعادة تعريف مهمة الإعلام نفسها، والدفع بالإعلام الموازي الجديد مثل الإنترنت لكي يلعب دوره كمنافس قوي للإعلام الكلاسيكي، مع السعي في الوقت نفسه لتحقيق الديمقراطية الرقمية المباشرة. ودون استبعاد من يسميهم الكاتب قتلة الحقيقة، لا أمل في تكريس حرية تعبير، أو حرية إعلام وإخبار، ولا أمل أيضاً في قيام ديمقراطية حقيقية. حسن ولد المختار ------ الكتاب: الطغيان الإعلامي المؤلف: جان إيف لوغالو الناشر: فيا رومانا تاريخ النشر: 2013