قبل عشرين عاماً وفي مراحلي العمرية الأكثر شباباً حدث أن كنت أحد الأميركيين الذي عُهد إليهم بحماية سر من أسرار الدولة المصنف على أنه «سري للغاية» وبأنه ذو أهمية خاصة بالنسبة للأمن القومي الأميركي، ولا أعرف لماذا تم اختياري لتحمل هذا العبء، على رغم أن وظيفتي في تلك الفترة كضابط صف في الجيش الأميركي مشارك في الحرب الكورية، لا تستدعي كل ذلك، بل الغريب أني حملت السر دون أن أعرف ما هو، ولا اقتنعت يوماً بأنه كان سراً أصلاً، وربما كان أن أقود وحدة صغيرة من المشاة في الحرب الكورية وأتقدم دون توقف على خط الجبهة هو السر نفسه. وبمعنى آخر، لم يكن السر في الحقيقة سوى ممارستي لعملي كجندي ينفذ التعليمات ويتقدم على خط الجبهة عندما يطلب منه ذلك. ولكن على رغم تفاهة المهمة ظلت براءة الذمة التي حصلت عليها من السلطات وتشير إلى عدم إفشائي السر تلازمني طيلة حياتي بدءاً من خدمتي العسكرية في الحرب الكورية إلى استمراري في الجيش الأميركي كضابط احتياط ملتزم، إلى أن انخرطت في سياسة الحرب الباردة، وتحديداً في العمل الدعائي الذي كانت تشرف عليه الولايات المتحدة من خلال التنسيق مع المثقفين ونشر الأفكار الليبرالية والأعمال الفنية، وغيرها مما يندرج في الحرب الفكرية ضد المعسكر الشرقي. وهو المجهود الدعائي الذي لم يكن مقتصراً على دول أوروبا الشرقية التابعة للاتحاد السوفييتي فقط، بل امتد أيضاً إلى الشرق الأوسط وآسيا. بل إن براءة الذمة تلك رافقتي طيلة تعاوني مع مراكز التفكير وعلى امتداد سنوات حرب فيتنام ليبدو أن حفاظي على السر أصبح محط تقدير السلطات في واشنطن. وما زلت أذكر كيف أن أحد عملاء «كي. جي. بي» حاول تجنيدي في نيويورك خلال لقاء عابر في مقر الأمم المتحدة، وكيف أن عناصر «إف. بي. أي» اتصلت به محاولة الاستفادة مني لتجنيد العميل السوفييتي، وكيف أخبرتهم بأنني على استعداد للاتصال بهم إذا ما حاول الاقتراب مني مجدداً دون أن أسعى أنا إلى تجنيده. وفي جميع الأحوال فإن ما دفعني للكتابة عن السر، الذي هو في الحقيقة ليس سراً، أني في حياتي كلها لم أجد فيما تقوم به الولايات المتحدة أمراً أو سياسة تستدعي السرية، فحتى الأسرار الكبرى المصنفة بالخطيرة لم تكن كذلك، ومع هذا سعت أميركا إلى حجبها عن مواطنيها والرأي العام الداخلي، أو حتى عن الكونجرس! فتلك الأسرار كانت معروفة مسبقاً لدى الاتحاد السوفييتي وحلف «وارسو» الذين يفترض أنهم أعداء أميركا الألداء. ولنأخذ كمثال على ذلك المنشورات والأدبيات الماركسية المعارضة للخط الرسمي في الاتحاد السوفييتي وباقي البلدان الشيوعية، بالإضافة إلى كتابات أوروبية تقدمية كانت ترسلها أميركا إلى المعسكر الشرقي، فالأشخاص الذين كانت تصلهم تلك المنشورات، سواء عبر البريد، أو بطرق أخرى، لم يكونوا أغبياء كي يفوتهم أن الأجهزة الغربية هي من تقف وراءها. أما الأشخاص الذين أُخفيت عنهم هذه الأمور وحرصت أميركا على كتمانها عنهم فهم الأميركيون أنفسهم والكونجرس، خوفاً من إثارة غضب الرأي العام إذا عرف أن أميركا ترسل منشورات ماركسية، حتى لو كانت معارضة، أو كتابات ليبرالية وتقدمية، ينظر إليها على أنهما منحلة، إلى الخارج بتمويل من دافع الضرائب الأميركي، حتى لو كان هذا الخارج هو الاتحاد السوفييتي نفسه. فالجهود التي كانت تبذلها أميركا خلال الحرب الباردة وتمولها وكالة الاستخبارات المركزية مثل تنظيم مؤتمرات حول العالم وإنشاء مجلات ومنابر إعلامية أميركية موجهة للخارج ودعم مثقفين وليبراليين -وهي الجهود التي صنفت على أنها من الأسرار الخطيرة التي لا يجوز إفشاؤها بأي شكل من الأشكال- ينظر إليها اليوم من قبل قطاعات واسعة من رموز اليمين، وحتى في الدوائر الليبرالية الغربية والعالمية، على أنها دعاية رخيصة ما كان للولايات المتحدة أن تنخرط فيها، ولذا تلاقي معارضة شديدة من الرأي العام وتتحرج السلطات من كشفها، ليصبح السر بالمفهوم المحلي وليس الخارجي. فالعالم بأسره كان يعرف أن أميركا تمول مشاريع إعلامية وتقف وراء وجهوه إعلامية وثقافية معروفة، إلا الرأي العام الأميركي كانت تنفق أموال طائلة لإبقائه مغيباً. وعلى سبيل المثال تظل الجريمة النكراء التي ارتكبها الجندي الأميركي، «برادلي مانينج» واستحق أن يسجن من أجلها ليس المعلومات التي سربها إلى موقع «ويكيليكس» والعالم ومن ضمنها شريط الفيديو الذي يظهر طائرة مروحية أميركية تقصف مجموعة من المدنيين في العراق، بل تتمثل الجريمة في وصولها إلى الرأي العام الأميركي الذي اكتشف ما تمارسه حكومته باسمه، فالفيديو لم يكن سراً ولا شيئاً جديداً بالنسبة للعراقيين الذي عانوا مراراً من قصف المدنيين ويعرفون جيداً أخطاء الجيش الأميركي، بل كان سراً على المواطن الأميركي الذي اعتقد أن بلاده منهمكة في حرب نشر الديمقراطية في العراق. والأمر نفسه ينطبق أيضاً على إدوارد سوندن المتهم بتسريب معلومات حساسة تتمثل في تنصت الولايات المتحدة على الحكومات الأجنبية، فالعالم بأسره يعرف أن أميركا تتجسس على الحكومات، ولكن ما جعل سنودن مطلوباً رأسه من قبل السلطات الأميركية ليس كشف ما هو معلوم بالضرورة لدى العالم، بل كشفه للأميركيين أنفسهم الذين تأكدوا بأن «الأخ الأكبر» موجود بالفعل وليس مجرد مبالغة، وبأنه ليس أحداً آخر غير بلدهم أميركا. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»