«القطط التي سمنت في زمن عبدالناصر ضغطت على السادات لتعزيز ثرواتها فكان قرار الانفتاح الاقتصادي».. هذه عبارة سطرها الكاتب والباحث البريطاني "ووتر بري" في كتابه الذي أعطاه عنوان: «مصر بين عهدين: ناصر والسادات». وعلى الرغم من مرور ربع قرن تقريباً على مطالعتي هذا الكتاب وأنا في السنة الثالثة من مرحلتي الجامعية، فإن تلك العبارة لا تزال محفورة في عقلي، تبهت قليلاً ثم تزدهر مع اقتراب احتفالنا كل سنة بذكرى «ثورة» يوليو، لكنني كنت طيلة الوقت أضعها بين قوسين، أنسبها لصاحبها ولا أتبناها، وأخضعها لكل ما تعلمته من شروط التفكير العلمي، وأولها الشك، والسعي إلى التحقق من صدق المعلومات والمقولات. ومع أنني ولدت بعد ستة أشهر من هزيمة يونيو 67، فقد ظل ما بيني وبين ثورة يوليو عامراً بمجانية التعليم وجودته، والأرض البراح الخصبة التي امتلكها فلاحو بلدي، فزرعوا وحصدوا وسعدوا بأيامهم، فردموا في ذاكرتي الكثير من حكايات جدي عن السادة الملاك والعبيد الأجُراء. للوهلة الأولى لا يستطيع أحد أن ينكر أن الفترة من 1952 حتى 1970 في تاريخ مصر شهدت تحولات اجتماعية فارقة، أعيدت على إثرها صياغة التركيبة الطبقية، وعناصر البيروقراطية، ونشأت فئة من التكنوقراط الجدد، في ظل اتجاه إلى تعميق التصنيع وزيادة الغلة الزراعية وتنظيمها عبر مشروع السد العالي العملاق، بالتزامن مع بناء ركائز أخرى للقوة، منها العسكري والعلمي والثقافي. ولا يستطيع أحد أن يتجاهل أن ضباط يوليو تمكنوا من نيل إعجاب الغالبية الساحقة من الجماهير المصرية، في إقدامهم على تلك الخطوة الشجاعة، التي جبنت وقتها قوى أكبر منهم بكثير أن تقوم بها، وكذلك في الشعارات العامة التي رفعوها في بداية الطريق، وفي تجرد القيادة السياسية ونزاهتها وطهارة يدها ووطنيتها وخيالها السياسي الطموح، الذي أراد مصر مستقلة لا تابعة، حرة لا مستعمرة، صاحبة دور إقليمي وعالمي لا منكفئة على ذاتها في انعزال ممقوت. إلا أن هذا «العدل الاجتماعي» وذلك الدور الخارجي الكبير تمت مقايضته بالحرية السياسية، أو الديمقراطية، أو «العدل السياسي» وهي مسألة ثبت خطؤها التاريخي، وقادت في خاتمة المطاف إلى إزاحة ما حققته «الثورة» من عدل بقرار فوقي سريع، تم اتخاذه بعد رحيل عبدالناصر بأربع سنوات فحسب، وهو قرار الانفتاح الاقتصادي، الذي بدا الآن «حقاً أريد به باطل»، فأدى بعد سنوات من تطبيقه إلى إلقاء مصر في فلك التبعية الاقتصادية الكاملة، والتبعية السياسية الجزئية، وفتح الباب على مصراعيه أمام انهيار القيم، وتفسخ العلاقات الإنسانية، وموت الحلم الجماعي، والانحياز للخلاص الفردي، بما مهد الطريق أمام صراع الكل ضد الكل في حرب أهلية صامتة تزداد ضراوة مع مطلع شمس كل يوم جديد. إن الإنجازات الاجتماعية الكبيرة والقومية المخلصة الطموحة للثورة تذوي ويختنق زخمها الثقافي الفياض مع اتساع رقعة التهميش الطبقي وانحسار الدور الخارجي أو انكساره وصعود فكر الاستهلاك وقيمه المفرطة في الأنانية وتقديم المعدة على الدماغ والشهوة على الكرامة، وشيوع حالة من الميوعة والترهل والفساد لتصيب المؤسسات بمختلف ألوانها واهتماماتها وتفاوت تواريخ نشأتها وأهميتها وموقعها من عمليات التفاعل الاجتماعي والسياسي والنشاط الاقتصادي والمالي والرؤى الثقافية والتصورات والاعتقادات الدينية، وتصبح هذه المؤسسات، التي تمثل جسم الدولة، في خاتمة المطاف، لا تعدو كونها «تكايا»، لمن يعتلونها من كبار الموظفين. قبل ثورة يناير 2011 لم يكن قد تبقى لنا من ثورة يوليو شيء سوى الذكريات المفعمة بالحنين، وبعض جمل عابرة فاترة لا يعنيها من يقولونها، عن الانحياز للبسطاء ومحدودي الدخل، والزيارة السنوية لضريح عبدالناصر، وكتب بعض المؤرخين، وحديث ساسة وقادة وكتاب كبار عن هذه الأيام بألسنة معتقة بالمرارة، من كان معها يرثيها، ومن كان عليها يلعنها. لكن هناك كثيرين يقولون بملء أفواههم: كان يجب على ثورة يوليو أن تدافع عن نفسها، ولو فعلوا ذلك ما قتلها قرار فوقي مهما كانت سطوة صاحبه. أما الأغلبية الكاسحة من المصريين المشتبكين في صراع يومي لتحصيل «لقمة العيش» فلم يعد يعنيها الوقوف على الأطلال، بعد أن جفت المآقي من طول البكاء، ولم تصبح مهتمة بما إذا كان عبدالناصر ديكتاتوراً أم مخلّصاً، ولا تتوقف ولو قليلاً أمام صرخات المثقفين التي تحيل كل ما نحن فيه إلى هزيمة يونيو. ولم يعد الفلاحون يحزنون على إلغاء عيد الفلاح لسنوات طويلة، بعد أن استعاد الملاك أراضيهم، ولا يندهش العمال أمام تسريحهم وتشريدهم المستمر أمام البيع المنظم للشركات والهيئات، ولا يئن الموظفون تحت سلطان بعض رؤسائهم ومديريهم الأغبياء المتجبرين، لأن الوظائف لم تعد تسمن ولا تغني من جوع. لكن هؤلاء جميعاً، الصامتين منهم والصائتين، في الريف والحضر، في الصحراء والوادي، ظلوا في السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك يشنفون آذانهم ويمدون أنوفهم ويضغطون على أضراسهم كلما تناهى إليهم أي صوت، في الإذاعة أو التليفزيون، أو لمحت عيونهم أي كلمة في جريدة أو كتاب تتحدث عن الظروف التي سبقت ثورة يوليو، والعوامل التي أدت إليها، وراحوا يضعون الحالة أمام الحالة والموقف قبالة الموقف، ويقولون في ثقة متناهية: إنها المقدمات التي تسبق النتائج، إلى أن تمكنوا بالفعل من أن يطلقوا ثورة جديدة، شعبية هذه المرة. والآن قامت ثورة في يناير 2011، أعقبتها احتجاجات عديدة، ثم موجة ثانية لها في يونيو الماضي، ولا يزال العدل الاجتماعي غائباً، والشباب مبعداً عن القرار، والمخاوف من التضييق على الحريات العامة والفردية قائمة، وإن استمر هذا الوضع السيئ فلن يتقدم بلدنا إلى الأمام.