بهدوء، ودون أن يشعر الكثيرون، وصلت رحلة التطور الغذائي لأفراد الجنس البشري والتي بدأت قبل ملايين السنين، على صعيد النوعية والكمية، إلى منعطف مهم في عام 2011. فللمرة الأولى في التاريخ الحديث، تخطى حجم إنتاج المزارع السمكية، حجم الإنتاج العالمي من لحوم المواشي. وبحلول عام 2012، زادت سعة هذا الفارق، حيث وصل إنتاج المزارع السمكية إلى رقم قياسي بلغ 66 مليون طن، مقارنة بـ63 مليون طن فقط من اللحوم الحمراء. وتشير التوقعات إلى أن العام الحالي، ربما يصبح العام الأول في تاريخ الإنسانية الذي يستهلك فيه البشر حجماً وعدداً أكبر من الأسماك المرباة في مزارع خاصة، مقارنة بحجم وعدد الأسماك التي ستسهلك من خلال طرق الصيد الاعتيادية، حيث يتوقع أن يفوق حجم إنتاج المزارع السمكية، حجم ما سيحصد من المصايد الطبيعية. هذ التحول الغذائي التاريخي، دفعت إليه عدة عوامل صحية، واقتصادية وبيئية. فعلى الجانب الصحي، تراجع استهلاك الفرد في الدول الغربية والصناعية من اللحوم الحمراء، بسبب مخاوف صحية متزايدة، وخصوصاً عند الإفراط في تناولها. فعلى سبيل المثال، نشر علماء المعهد القومي للسرطان بالولايات المتحدة (National Cancer Institute) قبل ثلاثة أعوام، نتائج دراسة أظهرت وجود علاقة مباشرة بين تناول اللحوم الحمراء وبين زيادة الوفيات. وهذه النتائج التي نشرت حينها في إحدى الدوريات الطبية المرموقة، (Archives of Internal Medicine) توصل إليها علماء المعهد من خلال متابعة أكثر من نصف مليون شخص في متوسط العمر، أو من كبار السن، وعلى مدار عشر سنوات. وخلاصة هذه الدراسة أن الأشخاص الذين كانوا يتناولون 110 جرامات من اللحوم الحمراء بشكل يومي، زادت احتمالات وفاتهم خلال عشر سنوات بمقدار 30 في المئة، مقارنة بمن كانوا يتناولون قدرا أقل من اللحوم الحمراء، أو أقل من 24 جراماً في اليوم. وهذه العلاقة لم ترتبط فقط باللحوم الحمراء في شكلها الطبيعي، وإنما أيضا باللحوم التي تم تصنيعها، وتعليبها في أشكال مختلفة (processed meat) . وعلى العكس، أظهرت الدراسة نفسها أن من يتناولون قدراً أكبر من اللحوم البيضاء، بأنواعها المختلفة من طيور وأسماك، تنخفض لديهم احتمالات الوفاة المبكرة، وإن كان بنسبة بسيطة. ويعتقد العلماء أن هذه العلاقة المميتة تعود في الأساس إلى سببين رئيسيين؛ الأول هو أن عملية طهي اللحوم الحمراء على درجات حرارة مرتفعة، تؤدي إلى تكون مركبات كيميائية تسبب السرطان. وبالفعل أظهرت دراسة واسعة النطاق، أن الإفراط في تناول اللحوم الحمراء يرفع من احتمالات الإصابة بالسرطان بنسبة تتراوح ما بين 20 إلى 60 في المئة، وخصوصا سرطان الرئة، والمريء، والكبد، والقولون. والسبب الثاني خلف العلاقة بين اللحوم الحمراء وبين السرطان، والوفيات المبكرة، يعود إلى احتواء هذه اللحوم على قدر كبير من الدهون الحيوانية المشبعة، والتي تؤدي هي الأخرى إلى زيادة احتمالات الإصابة بأنواع مختلفة من السرطان، كما يؤدي استهلاك كميات كبيرة من هذه الدهون إلى الإصابة بالسكري، وأمراض القلب والشرايين. وبخلاف المخاوف الصحية، ظهر خلال العقود القليلة الماضية، الصعوبات الاقتصادية المترافقة بمحاولة زيادة الإنتاج العالمي من اللحوم الحمراء، والتبعات البيئية الخطيرة الناتجة عن اتباع الأنماط التقليدية في توفير الغذاء لأكثر من سبعة مليارات شخص حاليا، يزداد عددهم بمقدار 80 مليون سنوياً، حيث يتوقع أن يصل عدد البشر إلى 9.3 مليار بحلول عام 2050، وإلى 10.1 مليار بحلول عام 2100. فحالياً، يتم استغلال الغالبية العظمى من المراعي والمروج بما يفوق قدرتها على الاستمرار في توفير الغذاء لأعداد هائلة من الماشية، كما أن فقدان الغطاء النباتي في هذه المراعي يؤدي إلى تدهور وموت التربة، ما ينتج عنه انهيارات أرضية، وعواصف رملية وترابية، وعدم صلاحية هذه المراعي لتربية الماشية أو الزراعة. ويلقى البعض على الزيادة الهائلة التي حصلت في أعداد الماشية خلال العقود القليلة الماضية، خلف ظاهرة الدفء العالمي، بسبب المقادير الكبيرة التي تنتجها هذه الحيوانات من غاز الميثان، أحد أهم الغازات المسببة للاحتباس الحراري، والتي وصل تركيزه حاليا في الغلاف الجوي إلى مستويات قياسية لم يشهدها كوكب الأرض منذ أكثر من 400 ألف سنة. ويعتبر قطاع تربية المواشي، وإنتاج اللحوم الحمراء، وتوزيعها، من القطاعات المستهلكة لمقادير كبيرة من الطاقة، التي ينتج عنها أيضا مقادير كبيرة من ثاني أوكسيد الكربون، أحد أهم غازات ظاهرة الاحتباس الحراري. وعلى المنوال نفسه، أدى فرط الصيد، والصيد الجائر، إلى انهيار تام في أعداد الأسماك في المصايد الطبيعية، ولدرجة أن بعض أنواع الأسماك المرغوبة والمطلوبة أصبحت شبه معرضة للانقراض، وهو ما يضطر مراكب وأساطيل الصيد، إلى الترحال إلى مناطق أبعد، وسبر أغوار مياه أعمق في البحار والمحيطات. ورغم ذلك يتناقص حجم ونوعية العائد، ويجعل من قطاع الصيد أقل ربحية بسبب الوقت والوقود اللذين أصبحا يستهلكان، ويرفع من سعر المنتج النهائي للمستهلك في الأسواق. هذه الأسباب مجتمعة، وغيرها، وفي ظل زيادة حجم الطلب العالمي على البروتينات الحيوانية بمقدار خمسة أضعاف خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أصبح أمراً شبه حتمي أن تحتل الأسماك المرباة في مزارع متخصصة، موقعاً متزايد الأهمية على مائدة طعام جنس تضاعف عدده سبع مرات خلال القرنين الماضيين فقط.