«طُوط»، إله فرعوني خلق العالم بصوته، «لأنه كان مطلعاً على قوة تأثير الصوت والكلمة». وتشير الأساطير المصرية القديمة إلى «أن صوته يتكثف بنفسه فيصير مادة، ومن هنا كانت قوة طوط كامنة في صوته، أي في النفخ الصادر عنه، ومن هذا النفخ يخلق كل شيء». ذكر ذلك المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه «تكوين العقل العربي». وربما «طوط» أصل التعبير العراقي الساخر «طيط» الذي يعني النفخ بالاتجاه المعاكس، ولا سند عندي لما أقوله سوى «الربيع العربي» الذي ضيّعنا بين مليونيات «طوط» و«طيط» تتنافس الفضائيات في نفخها وتفخيخها. وضاعت في «طوط» و«طيط» الربيع العربي أجهزة إعلامية عالمية تتوخى الدقة، مثل «بي بي سي» الإنجليزية التي احتارت في معرفة «كم كان عدد الناس في ميدان التحرير»، وهذا عنوان تقريرها الذي استقصى آراء شهود عيان، وعلماء رياضيات، ومختصين بتخمين عدد الحشود، وسألهم عما إذا كان صحيحاً الادعاء بأن تلك كانت حقاً أكبر انتفاضة في التاريخ. مراسل «بي بي سي» الموجود في ميدان التحرير خلال انتفاضة 30 يونيو، وثورة يناير عام 2011 استبعد أن يتسع الميدان لأكثر من نصف مليون، وشكك بادعاء مشاركة 40 مليون شخص في المظاهرات في مدن مصر، فهذا يعادل نحو نصف سكان مصر، ويصعب تصديقه، خصوصاً وأن خُمس السكان أطفال دون العاشرة من العمر. ما مصدر هذه الادعاءات إذن؟ لا علم بذلك حتى لدى فريق «بي بي سي» المسؤول عن رصد الإعلام العالمي، والذي نقل عن وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية الرسمية أن وزارة الداخلية أنكرت أن تكون مصدر الخبر. وذكرت «بي بي سي» أنها لعبة أرقام، ورجّحت أن يكون إعلان عدد المشاركين أقرب إلى عمل علاقات عامة وتسجيل أهداف، وليس السعي لمعرفة الحقيقة. ويمكن تخمين العدد الكلي عن طريق التقاط صور جوية للحشود، وقياس مساحتها العامة، ووضع شبكة عليها لتحديد معدل العدد في كل قطاع، وبذلك يُقدّرُ العدد العام الذي يظل في رأي الخبراء تخمينياً، بسبب الحركة الفوضوية للحشود، وتناقص أعدادها أو زيادتها بشكل عشوائي، حسب الظروف الطارئة. وخصخصة الميادين هو الانطباع الذي يولده في الذهن تقرير عماد مكي، الباحث في جامعة بيركلي. يتضمن التقرير معلومات عن الدعم المالي الذي تقدمه الخارجية الأميركية للجماعات والنشطاء الداعين للديمقراطية في مصر، وبينهم ضابط بوليس مصري متقاعد يعيش في الولايات المتحدة يدّعي أنه وضع خطة عمليات إقصاء محمد مرسي. التقرير منشور في موقع الإنترنت لفضائية «الجزيرة» الإنجليزية، وبالمناسبة أود الاعتراف بأني عدت إلى متابعة «الجزيرة» بعد انقطاع طويل، وذلك عندما تخلت عن وظيفتها الإعلامية إلى قيادة الأعمال الميدانية لـ«الربيع العربي». وعودتي متحفظة ورهن تقديمها المتوازن لما يجري على الأقل في مصر في ميداني «التحرير» و«رابعة العدوية». وكنتُ انقطعت عن مشاهدة «الجزيرة» يوم ارتجل زعيم ديني كبير أمام عدسة التليفزيون فتوى تحلل دم رئيس عربي، وسجّلته الذاكرة العربية ضمن المشهد الدموي المهين لذبح ذلك الرئيس بصواريخ «الناتو». جنون العمليات الانتحارية من جنون هذه الأفعال التي ستقاضي سنوات طويلة شعوب «الربيع العربي» المأخوذة على أمرها. ولو اعتمدنا «طوط» كوحدة لقياس أداء الفضائيات على غرار «واط» في الكهرباء، لاستطعنا تحديد ما إذا كانت «الثورة» في مصر يوم 30 يونيو من نوع «التحرير» في العراق عام 2003، ومعرفة ما إذا كانت قوة «طوط» المصريين تماثل قوة «طيط» العراقيين الذي لم يتوقف عن «الطيط» منذ عام 2003. وهنا نعثر على ما اعتبره الجابري «إحدى المفارقات الخطيرة في التجربة الحضارية العربية الإسلامية، المفارقة التي تمثل التناقض بين المضمون الأيديولوجي والأساس الإبستمولوجي في أيديولوجيا الطرفين المتصارعين: المعارضة الشيعية ودولة الخلافة السنية». فالمعارضة الشيعية استطاعت، حسب الجابري، أن تستقطب على مدى التاريخ العربي الإسلامي الفئات الاجتماعية المضطهدة المحرومة والمسحوقة وتتبنى قضيتها السياسية الاجتماعية، مما أكسبها مظهراً تقدمياً ثورياً، لكنها عملت على توظيف ما يسميه الجابري «العقل المستقيل»، والذي يعتبره أساس تأخر المسلمين. ومن هنا التناقض الذي بقيت تعانيه المعارضة الشيعية طوال تاريخها الحافل بالكفاحات والثورات: التناقض بين الطابع الثوري التقدمي للأهداف والطابع اللاعقلاني للأيديولوجيا وأساسها الإبستمولوجي. هذا بينما تبنت الدولة الخصم (السنية) موقفاً معاكساً تماماً؛ إذ كانت محافظة على مستوى الأهداف الاجتماعية و«ثورية» (عقلانية) في معظم الحالات على مستوى الأيديولوجيا. ومفهوم «العقل العربي» لدى الجابري هو «البنية الذهنية الثاوية في الثقافة العربية كما تشكلت في عصر التدوين» بإشراف الدولة العباسية في القرن الثاني الهجري. ويخلص كتاب «تكوين العقل العربي» الذي صدرت منه منذ عام 1984 سبع طبعات عربية وطبعة إنجليزية، إلى أن «تاريخ الثقافة العربية الراهن ما زال مجرد تكرار واجترار لنفس (التاريخ) الذي كتبه أجدادنا، وأنه ما زال خاضعاً لنفس الاهتمامات والإمكانيات التي وجهتهم وتحكمت في رؤاهم، والتي جعلت التاريخ الذي خلفوه تاريخ (فِرق) و(طبقات) و(مقالات) في كل فن على حدة، وبكيفية عامة: تاريخ الاختلاف في الرأي وليس تاريخ بناء الرأي». ويرى الجابري أن تاريخ القدماء كانت تمليه عليهم ظروفهم، ويمكن أن نبرره نحن بالنظر إلى المعطيات التي حركتهم. «إن طريقتهم في التأريخ هي نفسها جزء من التاريخ، لذلك فلا معنى لِلَوْمهم، إنما اللوم كل اللوم لانقيادنا الأعمى لما كان نتاجاً لظروف تاريخية خاصة ولتعاملنا معه وكأنه حقيقة مطلقة. إن هذا الانقياد يصرفنا عن اكتشاف الكل الذي يحمل فعلا الوحدة الثقافية العربية. ذلك أنه وراء (تاريخ) الاختلاف والتعدد والصراع والانفصال يثوي تاريخ الوحدة والتكامل والاتصال، وإذن فعلى أنقاض تاريخ الأجزاء، الممزق المبعثر، يجب أن نبني تاريخ الكل». وهل يمكن إعادة بناء الكل من دون العقل العربي الذي ولدت في أرضه جميع الأديان السماوية. قال أنس بن مالك رضي الله: «أثني على رجل عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: كيف عقله؟ قالوا: يا رسول الله إن من عبادته إن من خلقه إن من فضله إن من أدبه. فقال: كيف عقله: قالوا يارسول الله نثني عليه بالعبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله؟ فقال رسول الله: إن الأحمق العابد يصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر، وإنما يَقرُب الناس من ربهم بالزلَف على قدر عقولهم» (الماوردي، أدب الدنيا والدين). وماذا بغير قول الرسول نداري جزع أن نكون شهوداً على عابدين يهتفون: «الله أكبر» فيما يفتكون بالناس، وبالبلد والشعب والأمة؟