لم يكن المسيح عليه السلام ليدخل الامتحان القاسي في مواجهة الشيطان والفتنة وإغراء العالم وانكسار الجسد لولا التسلح بتدريب أربعين يوماً من الصوم. ولم يكن لموسى عليه السلام أن يتهيأ لميقات ربه «وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة»، ويتشوق لرؤية الله لولا الاستعداد بالصيام أربعين ليلة. الصيام يلعب دور صقل الروح وشفافيتها وانطلاقها من إسار المادة وصعودها الملكوتي لتلقي الوحي، بل والمغامرة والجرأة بطلب من نوع موسى «قال رب أرني أنظر إليك». ولم ينجح الزعيم الروحي غاندي ومعه عبد الغفار خان الزعيم المسلم من قبائل الباتان في استقلال الهند من دون نضال كان الصيام فيه إحدى أدوات التحرير الكبرى، وأهم ما في التحرير (تحرير النفس) من كراهية الإنجليز قبل رحيلهم، لأن العنف شجرة خبيثة، جذورها الكراهية وثمرتها الخوف، في علاقة جدلية يسبح المرء فيه بين ثلاث زوايا، من الكراهية وإفرازاتها الضارة، والعنف والعنف المضاد والخوف المتبادل. ولم يدخل المتصوفة والعبّاد عالم الروح والتأمل الباطني كما في جماعات (اليوجا) دون هذا التدريب القاسي، فالجوع يبدو أنه يحرض النفس ويهيئها على نحو ما من خلال آليات الشحن الروحي، والعودة إلى الذات، واكتشاف العالم الداخلي، ذكرها الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) بقائمة من الإنجازات بلغت عشر مزايا، من انفتاح عالم جديد خاص لا يعرفه إلا من ذاقه. تأسس عند الجاهليين في الجزيرة العربية نظام (الأشهر الحرم) كما جاء في محكم التنزيل: «إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم» لوضع حدٍ لسفك الدم، واعتُبِر أن التلاعب بهذا النظام بالمحافظة على شكله وإفساد روحه، شكل إجرامي وجرعة كفر مضاعفة «إنما النسيء زيادة في الكفر». وإبراهيم عليه السلام بتدشينه، لدورة الحج السنوية في تاريخ الجنس البشري، حجم الكعبة لتتحول الكرة الأرضية كلها إلى بيت حرام لا يسفك فيه دم الإنسان، ونظام (الأشهر الحرم) هو تدشين أولي لقلب أشهر السنة كلها إلى أشهر حرام يُحافظ فيها على الإنسان. وفكرة (القربان) هي ترميز رفيع المستوى لنقل التضحية من الإنسان (إسماعيل الذبيح) إلى مستوى التضحية بالحيوان (وفديناه بذبح عظيم) فلا يضحى بالإنسان، ولا يستخدم قرباناً على أي مذبح، لأي شكل من أشكال الأصنام، الحجر أو التمر أو الفكر، وتتوقف بذلك الحروب ويتوقف سفك دم الإنسان على وجه الأرض. والصوم كدورة تدريبية لمدة شهر استعداد لنقل هذا المفهوم السلامي بعد شهرين إلى مستوى الشحن الروحي السلامي العالمي لاحقاً في الحج، حيث يسكت الجدال غير المنتج، وكما منع الرفث في الصيام في النهار بالإمساك بمقود الغريزة، وهي تسود جو الحج؛ فيتوقف الرفث «فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج». وبذلك يلعب الصيام دوره في رفع قدرة التحكم الداخلية.