ليست مفاجئة موجة العمليات الإرهابية الدراماتيكية التي تصاعدت في سيناء خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة بمعدلات غير مسبوقة منذ تأسيس جماعات مسلحة متطرفة في هذه المنطقة في أواخر تسعينيات القرن الماضي. كانت هذه الموجة متوقعة لدى بعض المحللين، وغير مستبعدة لدى بعضهم الآخر، بعد أن تمددت الجماعات المسلحة في سيناء، مستغلة حالة الفوضى التي أعقبت انهيار جهاز الشرطة خلال انتفاضة 25 يناير. وأظهر الاعتداء الذي استهدف قائد الجيش الثاني الميداني اللواء أحمد وصفي في رفح مساء الأربعاء قبل الماضي (10 يوليو)، حدوث تطور نوعي في قدرة هذه الجماعات أو بعضها على تنفيذ هجمات أشد خطراً من أي وقت مضى، فقد تم هذا الاعتداء باستخدام صواريخ «جراد» وشحنات متفجرة. ولكن القوة المكلفة تأمين القائد المصري الكبير ردت على ذلك الاعتداء بنجاح. غير أن الخطر يظل كبيراً لأن الجماعات المسلحة استثمرت العام الذي حكمت فيه جماعة «الإخوان» مصر لدعم قدراتها التسليحية والتدريبية والتنظيمية واللوجستية، فقد ثبت الآن وجود علاقة بين الرئيس المعزول محمد مرسي وسلطته ومن ورائهما جماعة «الإخوان» وتلك الجماعات. وتظهر كل يوم دلائل وقرائن جديدة على أن الرئيس السابق استغل سلطته لتحجيم دور الجيش والأجهزة الأمنية في مواجهة الجماعات الإرهابية المسلحة. وكان كاتب السطور قد أثار هذه المسألة في مقالته المنشورة هنا في «وجهات نظر» يوم الأربعاء 29 مايو الماضي تحت عنوان «هل تستعيد مصر سيادتها على سيناء؟»، وذلك في معرض تحليل سلوك السلطة السابقة تجاه حادث اختطاف سبعة جنود مصريين في سيناء في منتصف الشهر نفسه، وما بدا حينها من لامبالاة هذه السلطة بالأخطار التي انطوى عليها الحادث، حين اعتبرت العثور عليهم نهاية المطاف أو غاية المراد. فقد خلصت المقالة، ضمن ما طرحته من أفكار، إلى أن استعادة مصر سيادتها على سيناء مرهونة بالإجابة عن سؤال محوري عما إذا كانت الحسابات السياسية لصانع القرار (الرئيس السابق مرسي وجماعته) تدفعه إلى عدم معاداة الجماعات الإرهابية المسلحة في سيناء أو عدم القطع معها، ربما لأن جماعة «الإخوان» قد تحتاج إليها مستقبلاً. ولم يكن هذا السؤال افتراضياً، بل انطلق من استقراء دلالات التردد في مواجهة تلك الجماعات عندما وصل خطرها إلى حد مهاجمة مركز أمني مصري قرب رفح في أغسطس 2012 وقتل 16 جندياً والاستيلاء على ناقلتي جنود مدرعتين. فقد لوحظ أن التحرك الذي بادر به الجيش بالتنسيق مع الشرطة لإطلاق «العملية نسر»، التي عُرفت لاحقاً باسم «عملية سيناء»، لم يكتمل بل أوقف بعد أيام على بدئه. واعتقد كثير من المحللين وقتها أن القيود المفروضة على الوجود العسكري المصري في المنطقتين «ب» و«ج» بموجب الملحق الأمني لمعاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية قد تكون هي الدافع وراء عدم إكمال العملية التي استهدفت ملاحقة الجماعات المسلحة حتى النهاية. غير أنه سرعان ما تبين خطأ ذلك الافتراض، وثبت أن الجيش المصري حصل على ضوء أخضر أميركي وعبر قنوات التنسيق الأمني مع إسرائيل لإدخال قوات ومعدات ثقيلة إلى هاتين المنطقتين بشكل مؤقت دون التقيد بالسقف المتضمن في ملحق المعاهدة. وتم بالفعل إدخال معدات ثقيلة إلى المنطقة «ج» للمرة الأولى منذ حرب 1967، بما في ذلك مروحيات قتالية من طراز «إى أيتش- 64 أباتشي». ومع ذلك، ظل تفسير عدم إكمال العملية العسكرية الأمنية التي استهدفت مواجهة حاسمة لتهديد الجماعات الإرهابية المسلحة موضع جدل ونقاش في غياب يقين بشأنه، إلى أن انطلقت هذه الجماعات لشن هجمات مكثفة شبه يومية منذ أن انحاز الجيش إلى موقف الشعب الذي طالب بسحب الثقة من مرسي، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة. فما أن أطلق مرسي أول إشارة للجوء إلى العنف في كلمته التي حملت معنى أن كرسي الرئاسة دونه دماء ورقاب مساء 2 يوليو الجاري، حتى بدأت الاستجابة فورية عبر تحرك الجماعات الإرهابية في شمال سيناء ضد مواقع شرطية وعسكرية ومنشآت عامة. وثبت، عندئذ، أن ما حدث في سيناء من قتل لجنود مصريين وخطف آخرين واعتداء على مواطنين ومنشآت عسكرية وشرطية واقتصادية، لم يكن بسبب فشل في مواجهة جماعات الإرهاب التي تنامت خلال العام الأخير، بل كان نتيجة تواطؤ جماعة الرئيس السابق وإحباطها الخطط التي وضعتها القوات المسلحة والشرطة لحماية الأمن القومي لمصر وأمان شعبها. وأصبح واضحاً الآن أن السلطة السابقة حرصت على أن تبقى جماعات الإرهاب المرتبط بعضها بتنظيم «القاعدة» رصيداً احتياطياً لها يمكن أن تستخدمه في حالة الضرورة. لم يكن متصوراً وقتها أن انتفاضة كاسحة باتت قريبة وقادرة على تغيير هذه السلطة. كان أقصى ما أمكن توقعه هو أن الإصرار على الاحتكار والهيمنة والفشل في حل مشاكل الناس وتفاقم معاناتهم سيؤدي إلى انتفاضات صغيرة ومتوسطة، وأن سلطة «الإخوان» السابقة قد تحتاج إلى جماعات الإرهاب لمواجهتها حتى لا تتورط عناصرها في ارتكاب مذابح على نطاق واسع حين ترفض الشرطة التنكيل بالمنتفضين. ولكن مفاجأة 30 يونيو الكبرى شلت يد السلطة وعجّلت بإخراج مرسي من المشهد السياسي، فأصبح دور جماعات الإرهاب هو التصعيد الفوري بسيناء في بداية عملية بدت كما لو أنها حرب لإعادته إلى القصر. ومثلما كانت كلمة مرسي مساء 2 يوليو إشارة إلى جماعات المساندة الإرهابية في سيناء، اعتقاداً في أن تحركها سيفزع مؤسسات الدولة التي وقفت مع الشعب ضد سلطته، حملت كلمة محمد بديع يوم 4 يوليو توجيهاً للتصعيد سعياً لخلق حالة عنف لترويع المصريين، وإعطاء وسائل إعلام متواطئة مع «الإخوان» فرصة لرسم صورة مصنوعة توحي بأن مصر منقسمة، وأنها تواجه خطر حرب أهلية لاستجلاب ضغط دولي على مؤسسات الدولة الوطنية لكي تتخلى عن مساندة شعبها. ولكن لجوء «الإخوان» وأتباعهم إلى العنف في أي مكان غرب قناة السويس لن يمثل تهديداً كبيراً، لأن المصريين قادرون على مواجهة هذا العنف مرة أخرى مثلما فعلوا في الفترة بين 1992 و1997. ولذلك سيظل التهديد الأخطر في سيناء، الأمر الذي يفرض الإسراع بمواجهته عبر تكتيكات عسكرية وقتالية جديدة لا تعتمد على العمليات الكبيرة، بل على ضربات خاطفة محدودة الحجم وكبيرة العدد في إطار خطة أوسع لمعالجة المظالم الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والقانونية الموروثة في هذه المنطقة، لحرمان الإرهابيين من أية حاضنة اجتماعية قد يجدونها.