عندما نشر «المجلس الوطني لكفاءة المدرسين» الشهر الماضي تقريره حول برامج التدريب التي يتبناها، لم تتملكني الدهشة حين فهمت منه أن الغالبية العظمى من الكليات والجامعات لا تبذل أدنى جهد ممكن لإعداد طلابها لعملية التدريس. ويمكنني أن أزعم أن العديد ممن شاركوا في هذه البرامج لم يندهشوا عندما قرأوا محتواه. وسبق لي أن انتسبت إلى كلية الآداب والفنون الحرة ذات المستوى التعليمي الرفيع، وتخرجت منها وأنا أحمل تخصصاً نادراً في علوم الاجتماع والأجناس البشرية والتربية، فضلاً عن حصولي على شهادة في تدريس المرحلة الابتدائية. وسرعان ما حصلت على فرصة عمل رائعة لتدريس مجموعة من الطلاب ذوي التحصيل الضعيف في مدرسة ابتدائية بمقاطعة برينس جورج في ولاية ميريلاند الأميركية. ولم أكن مستعدة لتعليم طلابي كيف يربطون خيوط أحذيتهم، وكانت خبرتي لا تكفيني لتعليمهم طريقة تضمن تعويضهم عن سنوات من إهمال المؤسسات لهم، ولا للتطرق معهم إلى ظواهر اجتماعية حساسة مثل الجوع والفقر وانحلال الأسر والعزلة وغيرها. وبدا العام الأول بالنسبة لي كابوساً مزعجاً، أما الثاني فكان أقل إزعاجاً بقليل. وما لبث أن جاء العام الثالث فتبدت لي إشراقته، إلا أنه ظل يحمل في طيّاته الإحساس بالكفاح اليومي لأداء العمل. وهناك قصص كثيرة كانت تنبع من صلب طبيعة العمل المجهد الذي أؤديه، وكنت أحرص على عدم البوح بها لأبي وأمي. وكان شغلي الشاغل خلال السنوات الثلاث تلك يتركز على تطوير أسلوب مبتكر لتدريس العديد من الطلاب ذوي مستويات التحصيل المتواضعة في الصفين الثالث والرابع الابتدائي، أولئك الذين لم يتم تأهيلهم على النحو السليم من قبل المدرس التربوي الخاص بالمدرسة. وعندما لمست حاجتي الشخصية الماسة لاكتساب المهارات التعليمية العملية الضرورية لمساعدة هؤلاء الطلاب، اتخذت قراراً بالانتساب إلى المدرسة العليا للتعليم الخاص، وبدأت بدراسة منهاج الماجستير لمدة عام في كلية إعداد المعلمين التابعة لجامعة كولومبيا، والذي يُعدّ واحداً من أفضل المناهج المتخصصة في البلاد. وسرعان ما أدركت أنني ارتكبت خطأ فظيعاً عندما اتضح لي أن أساتذتي غير مهتمين بتدريس أي شيء ذي طابع عملي. وفي عام 2000 كان البطل الأكاديمي لتلك المرحلة هو الذي يدعى «ليف فيجوتسكي» صاحب نظرية «نطاق التطور الأقرب» zone of proximal development. وبدا لي أن سيرتي السابقة في التدريس لم تعد تهمّني في شيء بعد أن عزمت على الانطلاق من رؤى «فيجوتسكي» وأطروحاته في كل بحث أقدّمه وكل خطة جديدة أضعها لإلقاء الدرس. وبحلول شهر ديسمبر من ذلك العام، تداعت إلى نفسي مشاعر الإحباط والملل. وعزمت على تعديل البرامج الدراسية الخاصة بالفصل الثاني والأخير، أو التخلي تماماً عن استكمال منهاج الماجستير قبل انتهائه. وكان من حسن حظي أن سمح لي رئيس قسم علم الأنثروبولوجيا والتربية باستكمال الفصل النهائي في صفوفه أو في صفوف أخرى أرغب فيها. وهكذا أنهيت منهاج الماجستير من دون إضافة أية معارف عملية في التدريس فوق تلك التي كنت أجيدها قبل الانتساب إلى المدرسة العليا لإعداد المعلمين. وأدركت أن من واجبي أن أبحث عن مكان آخر يضمن لي تعلّم المهارات العملية التي فشلت في اكتسابها حتى تلك اللحظة. وفي 18 من شهر يونيو، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» تقريراً حول أداء «المجلس الوطني لكفاءة المدرس»، ونقلت عن آرثر ليفين الرئيس الأسبق لكلية المعلمين قوله: «نحن لا نعرف كيف نعدّ المدرسين، ولا نمتلك القدرة على الحكم حول ما إذا كان التدريس حرفة أم مهنة. ولو كنتَ مدرّساً، فهل ستكون بحاجة إلى اكتساب الكثير من المعارف التعليمية كاحتياجك إليها في أية مهنة أخرى، أم أنك تحتاج إلى تعلم القليل ثم تكتسب المعرفة التعليمية العملية من خلال الممارسة كما هي الحال في تعلّم الحرفة؟». وأنا أتفق مع ليفين، ولكنني أعتقد أن إشاراته تكشف عن تقسيم تقني زائف في المعاني يمكن التوفيق بين طرفيه بسهولة لو أن الإدارة الأكاديمية أبدت استعداداً للقيام بذلك. وحتى نستطيع أن نفهم لماذا لا يحتاج عالَم التدريس للتفريق بين تدريب المعلمين كحرفيين أو كمهنيين، دعنا ننظر إلى الطب. ففي الولايات المتحدة، يذهب الطلاب إلى كلية الطب ليقضوا مدة أربع سنوات من الدراسة التخصصية العالية. وفي أول سنتين، ينصرفون لتلقي العلوم الطبية الأساسية والنظريات المتعلقة بها. ويقضون معظم السنتين الثالثة والرابعة كمناوبين في العيادات الخارجية من أجل اكتساب المهارة العملية في رعاية المرضى من خلال الملاحظة والممارسة الموجهة. كما يتعيّن عليهم بعد ذلك أن يجتازوا سلسلة من امتحانات الترخيص الصارمة التي تختبر مستوى معرفتهم النظرية والعملية. فإذا تمكنوا من اجتيازها بنجاح، يتابعون تدريبهم العملي تحت إشراف أطباء متخصصين من حملة الشهادات العليا، ثم يخضعون للمزيد من الاختبارات. ولا يعتبر هؤلاء الطلاب مؤهلين لممارسة الطب إلا إذا تجاوزوا بنجاح تعليمهم النظري والعملي. وبعد ذلك لن يكون في وسع أحد أن يشكك في أنهم أصبحوا محترفين. وبالطبع، يعدّ التدريب العملي جزءاً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنه في عملية إعدادهم لممارسة الطب. فلماذا لا نتبنى هذا النموذج في التعليم؟ بحيث يُطلب من المعلمين استكمال فترة من الدراسة يتعلمون من خلالها النظريات والأفكار التي تعتبر في غاية الأهمية بالنسبة لهم كمدرسين، وتصقل مهاراتهم في العمل وفق النظريات التعليمية الحديثة وانطلاقاً من وجهة نظر فكرية محضة. ويمكن أن يتم إخضاعهم بعد ذلك لبرنامج تدريبي موجّه تحت رعاية أساتذة من حملة الماجستير ولمدة سنة أو سنتين. ويكون البرنامج مدعوماً بالكثير من الممارسة العملية. كما يمكن أن نكثر من فرض الامتحانات الصارمة عليهم حتى نتأكد من بلوغهم المستوى المطلوب. وخلال بضع سنوات، سنلمس تحسناً كبيراً في مستوى أداء السلك التعليمي والمدارس برمتها. وأنا أعتقد أن المفاجأة السارّة ستكون في انتظارنا جميعاً. جين ديميان- إهرينفيلد كاتبة أميركية متخصصة في شؤون التعليم والحقوق المدنية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»