لا شك أن قضية مقتل الصبي الأميركي الأفريقي الأصل، «تريفون مارتن» على يدي الشاب الأميركي (الأبيض) زيمدان، وتبرئة هيئة المحلفين، المشكلة من ست سيدات أميركيات من البيض، وتصديق القاضية البيضاء على حكم تبرئة القاتل، فتحت الجرح القديم والعميق الذي يسكن جسد المجتمع الأميركي الديمقراطي، وفجرت الغضب والإحساس بالظلم وانفجر الغضب يوم السبت الماضي ليكشف عن حقائق مخجلة ومسيئة لسمعة الولايات المتحدة ومكانتها في نظر شعوب العالم الآخر، بل في نظر كثيرين من المواطنين الأميركيين أنفسهم (52 في المئة من الأميركيين قالوا في استطلاع للرأي، إن قضية مارتن ومحاكمة القاتل قد كشفت أن العنصرية الكامنة قد تأثرت بالثقافة العنصرية المعادية للأميركيين الملونين وفي مقدمتهم الأميركيون السود). وفي يوم السبت خرجت مواكب الاحتجاج على تبرئة القاتل وإدانة القتيل الصبي اليافع في أكثر من مائة مدينة أميركية، وقد شارك فيها مواطنون أميركيون ذوو مكانة عالية في المجتمع الثقافي والسياسي، وعبروا عن تضامنهم مع الأقليات الملونة ورفضهم سياسة التفرقة العنصرية التي تتستر وراء القانون، وطالبوا الرئاسة وإدارتها الفيدرالية بالنظر في القوانين التي أصدرتها بعض الولايات وفي مقدمتها ولاية فلوريدا (الولاية التي وقعت الجريمة البشعة في إحدى مدنها الصغيرة). إن تلك المحاكمة الجائرة شغلت الرأي العام الأميركي، وغطت الصحف والإذاعات وقنوات التلفزيون أخبارها اليومية، وحركت في أجهزة الإعلام مناقشات وحوارات لا تزال مستمرة حول العنصرية والكراهية والظلم (القانوني) الذي تعيش فيه الأقليات الأميركية، وهو حوار سياسي وفكري يتجدد كلما وقعت حادثة مثل حادثة مقتل الصبي مارتن ذي الستة عشر عاماً. وليس القصد من هذا المقال إعادة ما نشر وأذيع منها، وليس هذا مجاله، لكن الهدف والسبب الداعي له هو التأمل والتفكير في هذه الحالة الأميركية والكندية التي هي أكبر هموم المهاجرين القدامى والجدد إلى هذين البلدين الكبيرين. فمنذ أن بدأت حركة المجتمع المدني بتلك السيرة التي قادها مارتن لوثر كنج في ستينيات القرن الماضي، وما أنتجته من قوانين تقدمية ثمة محاولات لإصلاح أخطاء الماضي وتحقيق بعض أهداف حركة المجتمع المدني. صحيح أن بعض التقدم قد حدث في معالجة قضية العنصرية التاريخية في الولايات المتحدة.. وصحيح أن قوانين قد سطرت في كتب القانون الفيدرالي. وصحيح أن بعض السود حققوا نجاحات فردية ووصل بعضهم إلى مجلس الشيوخ وإلى منصب حكام بعض الولايات، هذا في الولايات المتحدة، أما في كندا ومع مسيرة التاريخ الحديثة التي قادها زعيم حزب الأحرار ورئيس الوزراء «بير ترودوا» بنضاله ورفاقه ليصدر ميثاق الحرية والحقوق، الذي يعد إحدى أهم الوثائق التقدمية في النظام الديمقراطي الغربي، والذي يساوي إن لم يكن يعلو على الدستور. لقد حقق الزعيم الكندي وحزبه الليبرالي لكندا تلك المكانة والسمعة العالمية. وقد حافظ المجتمع الكندي على هذه المكانة وأصبحت جريمة الإساءة العنصرية أخطر صفة يمكن أن يوصف بها المواطن خاصة إذا كان عاملاً في الحقل السياسي. ولكن بالمعايشة والمراقبة والتدقيق ومتابعة الممارسة اليومية لأجهزة الأمن وبعض الأجهزة الحكومية والبيروقراطية الكندية، يتوصل المرء معها إلى نتيجة محزنة وغير مشرفة للبلد الذي أصبح وطناً ثانياً له. إن الإحساس بالتفوق والتميز ضد الآخر حالة نفسية تنشأ مع الإنسان منذ الطفولة.. والإحساس بأن لون جسد الإنسان يحدد وضعه ويجعل الأبيض ينظر إلى اللون الأسود بتعالٍ وامتياز، حتى بعد أن انتهى عهد الاسترقاق وكانت للإمبراطورية البريطانية الريادة في صدور قانون تجريم تجارة الرقيق. ومن بعدها ونتيجة للثورة الأميركية والحرب الأهلية بين الشمال والجنوب العنصري لحقتها الولايات المتحدة الأميركية، وعلى رغم أن الكنديين (معظم الكنديين) يفخرون بأن بلدهم كان ملجأ للعبيد الهاربين من نيران العبودية في أميركا.. وفي نهاية القرن العشرين لحقت العنصرية المخفية تحت الجلد قضية الكراهية والاضطهاد ضد المسلمين بدعاوى الإرهاب الإسلامي، وأصبح في نظر الأجهزة الأمنية الفاشلة والغبية كل مسلم إرهابياً بالاسم والملبس قبل التحقق من شخصيته. إن العنصرية والتمييز واضطهاد البشر بعضهم لبعض حالة لا تنهيها القوانين الرادعة، فهي أصلاً حالة نفسية- ثقافية، قد تقلل القوانين من حدتها لكن علاجها المؤكد هو أن يراجع المجتمع المعني أوضاعه، وأن يؤسس نظامه التعليمي لكي يبدأ بتعليم الأطفال من مراحل الدراسة الأولية على ثقافة التعايش والمساواة، والزمن والنضال المستمر ضد العنصرية كفيل باجتثاثها من جذورها.