تتكرر الدعوات إلى جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر كي تجري مراجعة لأداء الرئيس الذي خرج من عباءتها ليحكم الدولة العربية الأكبر. والهدف المنشود هو أن المراجعة قد «توصل» «الإخوان» إلى إيجاد سبيل للتعامل مع الواقع المصري الجديد، بدل أن يحبسوا أنفسهم في مبارزة لم تعد مجدية. ويقول خصوم لـ«الإخوان» إنهم متخبِّطون الآن بين خيارين: المحافظة على تنظيمهم بالتأزيم، والبقاء في الشارع للمحافظة على التنظيم. خياران يلتقيان في المحصلة ويؤديان إلى النتيجة نفسها: ارتكاب المزيد من الأخطاء، ومعالجة الأخطاء بالأخطاء. فحتى الشعار المبدئي الذي يقرُّ لهم كثيرون بصوابه، أي «حماية الشرعية»، اختاروا لتدعيمه أسوأ الأساليب، بما فيها اللجوء إلى العنف، والمواجهة مع المؤسسة العسكرية إلى حد نزع شرعيتها. في البداية خشيت عواصم كثيرة، خصوصاً غربية، من أن تؤدي «ثورة 30 يونيو» إلى انهيار كامل للاستقرار في مصر، لاعتقادها بأن «الإخوان» يستطيعون إشعال البلد رداً على عزل رئيسهم، وبالتالي إسقاط تجربتهم. غير أن المخاوف عادت تدريجياً إلى حجمها الحقيقي، وبدأ العالم يعترف بالمرحلة الانتقالية الثانية وخريطة الطريق التي اعتمدتها. ثمة تجربة حكم فشلت ولابد من الإقرار بفشلها، أياً يكن الطرف الذي تولاَّها، أما أنه إسلامي أو غير إسلامي فهذا لا يغير شيئاً، وأما أنه كان مضطهداً في العهد السابق فهذا لا يمنحه الكفاءة لإدارة دولة ولا يضمن مسامحة مفتوحة. وفي المقابل، إذا كان الغربيون حرصوا على ألا يظهروا سريعاً كمعادين للإسلاميين، وتمسكوا بالتعريف الأولي العام لـ«الديمقراطية»، إلا أن الأطراف العربية (المسلمة) التي رحبت بإسقاط «حكم المرشد» أثبتت أن لا عقدة لديها تجاه إسلاميين. يمكن قول أي شيء للتخويف من العسكر و«قوتهم» و«حكمهم»، لكن ينبغي عدم إغفال أن الجيش المصري أجرى مراجعة عميقة لدوره وعلاقته مع الشعب وحدود تعاطيه مع السلطة والشأن السياسي. وقد ظهرت المعالم منذ أن أمره النظام السابق بالنزول إلى الشارع، ولا تزال تتوضح في فهمه لحقيقة الوضع، إذ أن مصر لا تزال عملياً في المرحلة الانتقالية التي بدأت غداة تنحي الرئيس السابق، وكان يعوّل على أول رئيس منتخب أن يتصرف كربُّان مسؤول عن سير السفينة وعن أمن وسلامة كل من هم فيها. ولو أحسن فعلاً وكان أجبر العسكريين على البقاء في ثكنهم وعدم التفكير في مغادرتها إلا لمواجهة خطر كبير يحدق بالبلاد. يعتقد الداعون إلى مراجعة «إخوانية»، وبعضهم من داخل «الجماعة»، أن الأمر يمكن أن يقتصر على تقديم العام «الإخواني» في الحكم. واقعياً، لابد أن تكون هناك مراجعات كثيرة لا علاقة مباشرة لها بإدارة «مكتب الإرشاد» لعمل محمد مرسي. فلو أن «الإخوان» شاركوا فعلاً في «ثورة 25 يناير»، متأخرين أو ملتحقين لا فرق، لكانوا تعرفوا للمرة الأولى إلى طموحات المجتمع، ولكانوا اختبروا على أرض الواقع مجمل الأفكار التي بنوا عليها مشاريعهم حينما كانوا في المعارضة. تلك كانت المراجعة الأولى المطلوبة، ولو لم يفوِّتوها لأدركوا أن العيب في النظام السابق ليس في كونه «غير إسلامي» بل في بعض الخيارات الشخصية التي ضلَّت البوصلة، ومنها «توريث الحكم» على سبيل المثال. وفي المرحلة الانتقالية الأولى، راوح «الإخوان» بين التأزيم والابتزاز في الشارع، وفي التعامل مع المجلس العسكري، وحين قالوا إنهم لن يرشحوا «إخوانياً» للرئاسة بدا ذلك خياراً عقلانياً، وعندما غيّروا موقفهم رجحوا مصلحة التنظيم على مصلحة الوطن. وتلك كانت المراجعة الثانية المطلوبة، ولو لم يفوُّتوها لأدركوا أن العيب فيهم أن لا خبرات لديهم ولا كفاءات. بعد ذلك، توالت المراجعات التي فوتوها، من نقض التعهد بمشاركة أطراف غير إسلامية في الحكومة، إلى الأخطاء المتراكمة في ممارسات مرسي (الإعلان الدستوري، الدستور غير المتوافق عليه، المعركة المفتوحة مع القضاء، المعركة المكتومة مع الجيش والأمن والأجهزة...). واقع الأمر أنهم فوَّتوا الأهم: مراجعة كل الثقافة السياسية التي اتبعوها لثمانية عقود في تنشئة أجيالهم ومخاطبة جمهورهم. لذلك يقول شبابهم الآن إن على جيلهم القديم أن يتنحَّى. كان بعض الخصوم يفضل أن يبقى مرسي فترة أطول للتأكد من أن «حكم المرشد» حقق فشلاً ذريعاً ونهائياً، غير أن المخاطر على مصر نفسها كانت أكبر. هذا يعني أن إسقاط مرسي شكل ضربة قاسية لـ«الإخوان» لكنهم لم يحكم على «الجماعة» بالإعدام، بل أبقى لها فرصة شرط أن تعثر على الخروج الآمن من الأزمة الراهنة.