ما يجري في سوريا من جرائم بشعة بحق الإنسانية ولَبْنَنَة الصراع في سوريا له ارتباط مباشر بمدى اندماج أو انسجام سياسات القوى العالمية الكبرى المؤثرة في الصراع السوري وسياسات الدول العربية والإقليمية نحو تلك الأزمة، وذلك لرسم خريطة طريق جيوإستراتيجية لتجاوز الأزمة الراهنة. وتأثير تلك الأجواء لا يقتصر على السياسة الخارجية لتلك الدول والتحالفات والجماعات والمنظمات الدولية، ولكن أيضاً يمتد إلى التفاعل مع الجماعات الثقافية، الاقتصادية والاجتماعية في سوريا لخلق جغرافيا سياسية، ثقافية، اقتصادية واجتماعية مستقلة تماماً ومنفردة، وهي معضلة ستؤدي إلى انهيار منظومة الدولة السورية عاجلاً أو آجلاً إذا ما لم يتدارك الشعب السوري والمخلصون والمحبون له خطورة ذلك السيناريو، الذي يُطبخ على نارٍ هادئة ولكنها مدمرة، وهو الأمر الذي لم تنجح فيه مختلف القوى والقوميات والنزاعات والصراعات التي مرت بها سوريا على مر تاريخها الطويل ودور القوى العظمى في السعي لتحقيق السيطرة على المنطقة. فمن يسيطر على سوريا يمكن أن يشدد قبضته على العراق وتركيا ومصر وإيران، وبالتالي كل الشرق الأوسط بموقعه المميز وثرواته وخيراته ومخزونه الهائل من الطاقة والموارد الطبيعية الحيوية وما يتاخمه من أراض وبحار ومضايق وبحيرات وأنهار تمثل جوهرة الطاقة والمواد الخام التي تُشترى بثمن بخس ليعاد بيعها بمبالغ خيالية في مختلف قارات العالم، كما يضمن ذلك سلامة الكيان الصهيوني ووجوده الأبدي في المنطقة لحراسة تلك الثروات مقابل ما يُقدم له من جزيه بالوكالة تارةً ومكافأةً مباشرة وغير مباشرة بمختلف أنواعها المادية والمعنوية تارةً أخرى من جميع الأطراف مقابل لما يقوم به من حراسةٍ وتأمينٍ لنفسه أولاً وللمنطقة ثانياً. ولضمان توازن القوى في المنطقة من جانب ولاعتبارات أخرى عديدة مختلفة باسم القوى العظمى ومصالحها المشتركة واتفاقيات جانبية مبرمة خلف الأبواب المغلقة، وبعد أن دُمِّر الجيشان العراقي والليبي وعدم استقرار الأوضاع في لبنان ومحاولة تأجيج الوضع في الأردن، تَبقَّى الجيش السوري وتحطيم معنويات الجيش المصري وهذا السيناريو يتحدث عن نفسه من دون شرح وتفسير لخبايا الأمور. ومن سيكون الرابح الأكبر، وما هي الصفقة السرية الأخطر في تاريخ المنطقة لرسم شرق أوسط جديد، وهل تبدو مؤشرات الإنذار المبكر واضحة للجميع، وما هو العمل حيالها. فهل ما يجري في سوريا هو مقدمة لتمهيد الطريق وشَرْعنة آليات الحكم الذاتي التي تهيمن على عقول بعض قادة الأقليات؟ فمن العلويين في اللاذقية (في الجبال على ساحل البحر المتوسط وفي الغرب) والدروز في السويداء (في الجبل في الجنوب) والأكراد في الجزيرة (على طول الحدود الشمالية الشرقية مع تركيا والعراق) قد يتغير الوضع على الأرض بسرعة مذهلة. ومِن الخطأ أن نساوي تفكك الدولة على أُسُسٍ طائفية مع تفكك المجتمع المدني فيها، فكلما طال النزاع كلما زادت فرص حدوث انهيار كامل للمجتمع المدني السوري واقتطاع جزء لإعلان دولة إسلامية مستقلة. سوريا بلد متنوع دينياً وعرقياً ويمثل الشيعة فيه 17 في المئة من السكان تقريباً، وبالرغم من ذلك نجد إيران وممثلها الدائم في بلاد الشام ، ألا وهو حزب الله، يعلنها بكل صراحة بأَّنه ذاهبٌ للقتال حتى النهاية، ونصرة بشار الأسد ومقاتلي «حزب الله» لا يقاتلون للسيطرة على المدن فقط على الجانب الآخر من الحدود اللبنانية، ولكن الانتقال إلى داخل سوريا وبالتحديد مدينة حلب ولديهم قناعة راسخة إن قتل الأبرياء جائز ومباح باسم نصرة المذهب الشيعي، وهذا يبيّن لنا مدى عنصرية الحزب الذي يقِّسم المسلمون لمن هم جائز قتلهم ولمن هم جائز نُصرتهم. وقد صنع «حزب الله» الفارق بإرساله أفضل عناصر قواته المدربة على هذا النوع من القتال والفر والكر وتعويض النقص، في الكفاءة القتالية والخُططِّية بين صفوف الجيش السوري النظامي، وخاصة أن فصائل تنظيم «القاعدة» والجماعات المشابهة لها من جانب آخر تعمل على دعم الثورة بطريقتها الخاصة، وكذلك علينا أن لا ننسى جهود جماعة «الإخوان» وإيران لتحويل «الربيع العربي» لربيع إسلامي متطرف. معظم القوى تريد ضمان موضع قدمٍ لها في سوريا للحصول على نصيبها في التركة السورية، فالمصالح الدولية أكبر من مصلحة الشعب السوري المغلوب على أمره بجانب رغبة معظم القوى في بناء علاقات مع الأحزاب السياسية الداخلية وفي المنفى وإقامة علاقات مع الجماعات المسلحة على الأرض. وكانت الولايات المتحدة تأمل في إقناع روسيا باستخدام نفوذها مع الأسد لحمله على التنحي والسماح بانتقال السلطة على النمط اليمني، وتوحيد جماعات المعارضة السياسية من خلال سلسلة من الاجتماعات التي عُقدت في جميع أنحاء العالم، ولن يذهب الأسد من دون انحلال الدولة، ولا أعتقد أن سوريا متجهة نحو أن يكون لها زعيم واحد مسؤول عن البلد كله على الأقل في المدى القصير، وأتوقع أن ينحصر دور الأسد وحزبه في معقل العلويين في اللاذقية وستسقط دمشق وجزء كبير من البلاد في أيدي المعارضة. أما بقية البلاد فستظل منشقة على أسس عرقية، مع تراجع الأكراد إلى الحدود العراقية الكردية، بينما سيكون المسيحيون والدروز مبعثرين في كل مكان، وإذا حدث ذلك سيكون تشكيل ائتلاف للتحول السياسي السلمي صعباً في الغاية، وخاصة أن هناك فصلاً كبيراً بين الأحزاب السياسية والمقاتلين على الأرض. ومن المرجح أن تكون قوة الإرادة السياسية في سوريا بعد الأسد في يد الشارع المتنازع، وسيستغرق توازن الوضع عقوداً من عدم الاستقرار والعنف وحروباً أهلية أو دولة فاشلة سيكون لها آثار مدمرة على المنطقة بأسرها، فسوريا هي الباب الخلفي لإيران ولبنان وإسرائيل، وبالتالي واحدة من أهم النقاط الساخنة الاستراتيجية في العالم وساحة قتال سُني/شيعي يلوح في الأفق بجانب المصالح الاستراتيجية الضخمة للجارة تركيا ناهيك عن المصالح الروسية والصينية في سوريا، والحجج المقدمة ضد التدخل هي مجرد ذرائع سياسية لتبرير سياسة التقاعس قبل الاتفاق على التقسيم المناسب لسوريا بما يكفل مصالح جميع الأطراف، فالحرب لم تعد بين الأسد والمتمردين، بل بين الأسد وإيران و«حزب الله» والمتمردين، وإلى حد ما القوى الدولية والإقليمية الأخرى، وأصبحت إيران على مرمى حجر من إسرائيل مما يهدد الأمن القومي الإسرائيلي، فالصراع صراع جيوسياسي بغيض لا يضع في الحسبان أي اعتبار للوضع الإنساني، وقد أثيرت مخاوف مشروعة حول إرسال أسلحة ثقيلة إلى المتمردين ولا سيما من دون سياسات إضافية مثل جعل سوريا منطقة محظور فيها الطيران وضمان وصولها للعناصر المعتدلة، فالأسلحة يمكن أن ينتهي بها المطاف في الأيدي الخطأ، والذي من شأنه أن يطيل الحرب بدلاً من أن ينهيها، كما أنه من الضروري وجود تعاون وثيق بين القوى العظمى وتركيا والأردن ولبنان لبناء قوة مركزية قادرة على مهاجمة دمشق من الشمال والجنوب والسيطرة على المدن الرئيسية الأخرى مثل حمص ودرعا والقصير، والذي ومن شأنه أيضاً أن يوفر فرصة لتقسيم الميليشيا الإسلامية والحد من تأثيرها على النتيجة العامة، ولن يكون هناك حل من دون إعطاء ميزة نسبية للروس، وخططها المستقبلية لسوريا بجانب المصالح الصينية في الساحة الدولية بالتوازن مع الولايات المتحدة وحلفائها من جهة بجانب أطراف صراع الأيديولوجية المذهبية وزعامة المنطقة.