ليس عسيراً على الملاحظ المدقق أن يضع يده على تعاظم الأخطار الموجهة إلى سوريا، وذلك بنسبة آخذة في التصاعد مع التوغل في الحرب الدائرة بقوة فيها. أما تعاظم الأخطار المذكورة فيأخذ خطَّين اثنين، واحداً كمياً وآخر نوعياً. ويُفهم هذا الأمر على أساس أن الخط الكمِّي يزداد بازدياد تجلياته، في حين يزداد الخط الآخر النوعي، بصيغة التغوُّل في الأخطار بكيفية قد تحمل انفجارات كبرى يمكن أن تطيح بالوطن السوري وبغيره. تحدثنا عن الطائفية والثأرية، وفي سياق ذلك، برزت ظاهرات أخرى لا تقل في أخطارها عما تفعله الطائفية والثأرية وعما ينشأ معهما أو بعدهما من ظاهرات، وهنا نضع يدنا على «التقسيمية» و«التجنيسية». وقبل التفصيل في التقسيمية، يجدر بنا القول إن هاتين الأخيرتين ليستا آخر العنقود، فهنالك ساحات من الحرب الداخلية الكفيلة بإنتاج ظاهرات أخرى، مما يدعونا إلى أن نترك الباب مفتوحاً أمام ما قد ينشأ معهما وبعدهما أو معهما وبعدهما في سياق واحد. أما الاتجاه التقسيمي فيظهر في صيغ متعددة تخدم هدفاً واحداً، يتمثل في تفكيك سوريا إلى أقاليم ومناطق متعددة، يكون القصد منها تهشيم الكيان الواحد إلى عدة كيانات وإنهاء الدولة الواحدة، مع التركيز على أهمية كل تلك الكيانات مجتمعة وبحسب الثروات الطبيعية التي تمتلكها. أما الصيغة الأخرى المحتملة فهي تلك المتمثلة في عملية التقسيم المذكورة، ولكن لصالح كيان واحد بعينه، أي على نحو يجعل تلك الكيانات في خدمة واحد منها، بيد أن تعقيد الموقف داخلاً وخارجاً يحول، بدرجة كبرى بل حاسمة، دون ذلك. والمأساة التي تنطلق من هنا تتبلور في أن مجموعات من النظام الأمني تصر على ذلك، حتى لو انتهى إلى تدمير كل البلاد. ونضع يدنا على تلك المأساة بمزيد من الأسى، حين نأتي على ظاهرة «التجنيسية». إذ هنا يحاول المعنيون أن يحققوا الهدف الكبير من العملية، وهو إعادة بناء التركيب الديموغرافي السكاني إما باتجاه ديني مذهبي، وإما باتجاه طائفي، وإما باتجاه ثالث يأخذ الهُوية الإثنية والقومية بعين الاعتبار الأساسي. والملفت في هذا وذاك أن تحقيق المطلوب فيهما يأتي بطريق تغيير هوية المجموعة السكانية القاطنة في إحدى المدن والمناطق، بمجموعة سكانية أخرى تُستجلب من المكان المناسب لها، وذلك بإعادة النظر في كيفية زرْع حالة جديدة من البشر في مكان آخر غير الذي عاشت فيه، حتى حينه. إن المرحلة الراهنة المعيشة سوريا، تمثل وضعية في غاية الخطورة والتعقيد والاحتمال للانفجار واستيلاد كل البلاءات والفاحشات، بحيث مثَّلت بنية تستجيب بقوة لكل أنماط الفساد والإفساد. لقد كان سقوط بغداد مأساة عظمي، إضافة إلى أنه أكثر التعبيرات عن العار اللاحق بنُظم هذه البلدان. وعلى هذا، كثرت الدبابير، وتعاظمت المشاريع التي يطمح أصحابها إلى أخذ «حصصهم» من أهل البازار المعنيين هنا وهناك وهنالك. على ذلك النحو، انتقلت الكرة من مطالب الطائفية، إلى مطالب الثأرية والتقسيمية ثم إلى التجنيسية...إلخ، بحيث تحول ذلك كله إلى طوق من حديد طوَّق القطر والوطن وبشر بالعودة إلى عصر الطوائف والتدمير المنهجي. والمفارقة الفاقعة تتمثل في أن معظم ذلك يراد له أن يحدث تحت رايات أحزاب وكتل سياسية ترفع حتى الآن شعارات الوحدة الوطنية والعربية، وشعارات النهوض والتنمية والتقدم التاريخي.