كشفت «ثورة 30 يونيو» في مصر عن تعقيد المسار الانتقالي للديمقراطية في البلدان العربية، وفجرت نقاشاً نظرياً وإيديولوجياً واسعاً حول إشكالات الشرعية وعلاقتها بمسلك تدبير الحقل السياسي ونظام الحريات العامة. ولقد عنّ لي الرجوع لأدبيات الفكر السياسي الغربي في القرن التاسع عشر، في فرنسا وأميركا على الأخص، للمقارنة مع الحالة العربية الراهنة، فذهلت بأوجه التقارب والتشابه رغم اختلاف السياقات والأزمنة. ومن دون الخوض في التفاصيل التي تهم المختصين من مؤرخين وعلماء سياسة واجتماع، أود الإشارة إلى ثلاثة أوجه من الحوار الفكري والسياسي حول أزمات الانتقال الديمقراطي، اعتقد أنها مفيدة في استكناه وتوجيه المسار العربي المتعثر، مشيرين هنا إلى ما أطلق عليه «روزنفالون» مقولة «أمراض الديمقراطية» الناتجة عن توتراتها الداخلية. أما الوجه الأول، فيتعلق بالصدام بين الجانب الإجرائي المسطري في الديمقراطية وجانبها المفهومي القيمي. وبالرجوع للتجربة الغربية، يتبين أن الثوار الفرنسيين والأميركان المتشبعين بالتقليد "الأنواري" في نسختيه الفلسفية والليبرالية (الانجليزية) كانوا دوماً متخوفين من التفاف الطبقة السياسية على الأهداف والقيم التغييرية الراديكالية التي قادت حركتهم التاريخية. ومن هنا يمكن القول إن الجانب التمثيلي من حيث هو مجرد تعبير عن الموازين القائمة لم يكن آلية مقبولة لدى الثوار الذين كان ميلهم للتجربة الدستورية الإنجليزية التي تصورت النظام البرلماني في صيغة مجلس تداولي يفرز النخبة القيادية الطلائعية المؤهلة معرفياً وقيمياً لاحتضان ديناميكية التنوير والدفاع عنها. ما يحدث راهناً في الساحات العربية هو الاتجاه نفسه: منطق الميدان الذي أسقط الأنظمة الاستبدادية الأحادية مقابل السلطة المنتخبة التي تحول لحصن جديد للأحادية والتسلطية، منطق القيم الليبرالية الفردية مقابل منطق الجماعة والوصاية الأبوية... الدين نفسه محور في هذا التصادم رغم الإجماع حول مرجعيته: انتماء روحي أخلاقي وقيم عمومية أم أيديولوجيا ومشروع سياسي شمولي (شيخ الأزهر أو مرشد الجماعة؟). نحن هنا في هذا الوجه الأول أمام خطر الانحراف الإجرائي في الديمقراطية التمثيلية التي قد تكون باباً جديداً لإعادة إنتاج البنية التسلطية الاستبدادية. أما الانحراف الثاني، فيتعلق بالبنيات المؤسسية للديمقراطية، التي من دونها لا يمكنها أن تتخذ شكل الاستمرارية والاستقرار. والواقع أن بناء هذه القاعدة المؤسسية يحتاج لمسار طويل وتسويات وتوازنات عصية هي التحدي الأكبر والأخطر في التجارب الديمقراطية الوليدة. وبالرجوع لأدبيات القرن التاسع عشر في أوروبا وأميركا، يتبين أن المجتمعات الغربية مرت بثورات متتالية وعنيفة أحياناً، تكريساً لرؤية نظرية دافع عنها الكثير من الفلاسفة والمفكرين مفادها أن لحظة الانتفاضة والتمرد هي الزمنية الوحيدة للثورة وهي الأفق الوحيد القادر على التعبير عن روح الشعب وعفويته وعنفوانه. كان «امنويل سياس» أحد قادة الثورة الفرنسية يقول: «إن الانتفاضة هي وحدها التي تجسد حكم الشعب باعتبارها سلطة لا شكل لها»، وكان الزعيم الفوضوي الفرنسي «أوغست بلانكي» أحد رموز «ثورة 1848» التي أسست الجمهورية الثانية ورموز «كمونة باريس» (1871) يرى أن الثوران الشعبي الهائج هو «الفعل الجذري المؤسس للسيادة». ومن المعروف أن هذه الفكرة، هي التي قامت عليها التصورات الماركسية للديمقراطية بصفتها فعلاً ثورياً راديكالياً غير قابل للتشكل في صيغ مؤسسية قارة. ونلمس اليوم داخل الاتجاه اليساري عودة قوية لهذا الخطاب المدافع عن الديمقراطية الثورية في كتابات ثلاثة فلاسفة بارزين هم: الإيطالي «توني نجري» والفرنسي «ألان باديو» والتشيكي «سلوفان جيجك». وقد تحمس الثلاثة لموجة «الربيع العربي»، ووجدوا فيه التعبير الصريح عن نمط الثورات التي تعيد فتح إشكال السلطة المكونة (بكسر الواو) مقابل المؤسسات الشرعية للديمقراطيات الإجرائية. الثورات مكلفة سياسياً واقتصادياً وهي بالضرورة أحداث استثنائية، ومن الخطر أن تتحول إلى مشهد دائم، ومن هنا ضرورة الإسراع في بناء المؤسسات الديمقراطية المكينة الحافظة للحريات والسلم المدني. إنه التحدي الكبير الذي تواجهه اليوم الساحة المصرية التي مرت بثورتين متقاربتين، وآن لها أن تخرج من الوضع الانتقالي، الذي عطل المرافق العمومية، وأجج الاحتقان السياسي في مرحلتيه المتتاليتين: حكم المجلس العسكري وحكم الرئيس المخلوع «مرسي». أما الانحراف الثالث فيتعلق بالأنظمة الشعبوية التي كثيراً ما تصل للسلطة في فترات التأزم والاضطراب، وقد مرت الديمقراطيات الأوروبية العتيدة بهذه المرحلة: فرنسا في العهد الإمبراطوري وألمانيا في الحقبة النازية. يستند الخطاب الشعبوي لنفور شديد من الطبقة السياسية وانجراف نحو التجييش العاطفي، ودغدغة شعور الأمة بصفتها وحدة متجانسة قائمة على الهوية الجوهرية العضوية، لا كتلة اجتماعية متنوعة تقوم وحدتها على الروابط التعاقدية والاختلاف المنظم. ينجر عادة عن هذا التصور تقديس الزعيم - البطل نموذجاً للقيادة السياسية، وتجسيداً للشعب في كينونته العميقة والحية، واستبدال آلية الانتخاب بديناميكية الإجماع والتزكية والتماهي مع «الرمز المقدس». ولقد عبرت الماركسية والنازية أجلى تعبير عن هذا الانحراف، فاعتبرت الأولى سلطة الحزب تجسيداً عن الكيان الاجتماعي من دون وسائط مؤسسية، واعتبرت الثانية أن الديمقراطية التمثيلية مضللة وناقصة، والبديل عنها هو «الديمقراطية القومية» المعبرة عن هوية الأمة، كما تتجسد في الدولة الكلية الشاملة، بلور كارل شميت هذه الرؤية في أعماله المهمة التي توظف حالياً في اتجاهات جديدة. ولا نحتاج للتذكير أن الأنظمة الشعبوية الثورية، التي عرفتها البلدان العربية بعد تجارب الانفتاح الليبرالي المحدود في الأربعينيات والخمسينيات قد كرست أكثر تجارب الاستبداد السياسي في العالم العربي. ولا شك أن الخشية اليوم قائمة من وصول نماذج جديدة من الأنظمة الشعبوية عن طريق آليات التمثيل والانتخاب الديمقراطية في مرحلة متأزمة وعاصفة من التطور السياسي للمجتمعات العربية. في لقاء أخير مع وزير الخارجية الإسباني السابق «ميجل موراتينوس»، الذي يعرف جيداً الأوضاع العربية قال لي:«إن خوفي اليوم على العالم العربي هو تصديق من يبيع الأوهام للشارع، الذي لا يدرك أن الديمقراطية، وإنْ كانت حاجة ضرورية لكنها مملة ومحبطة».