كانت القاعدة فيما مضى أن الانقلابات العسكرية غير مرحب بها لأنها تلغي الدستور، وتقيد الحريات، وتأتي بحفنة من ذوي البدلات الكاكية والرتب النحاسية ممن لا يعرفون إدارة البلاد والعباد والعلاقات الدولية، فيرتكبون الخطأ تلو الخطأ، دون أن يجرأ أحد على محاسبتهم. لكن الأمر تغير اليوم أو هو في طريقه للتغير- على الأقل عربياً. فعلى ضوء ما جرى مؤخراً في مصر حينما انحاز العسكر إلى جماهير الشعب المطالبة برحيل النظام المدني الذي اختارته بنفسها بعدما تبين لها أنها لم تحسن الاختيار، وراهنت على جواد ذي أيديولوجية إقصائية متطرفة تمنعه من الانسجام مع قواعد العملية الديمقراطية واشتراطاتها، صار هناك جدل غير مسبوق حول حق الجيش في التدخل في السياسة في حالات معينة. والجواد المشار إليه هو جماعة "الإخوان المسلمين" ممثلة في الرئيس المعزول، والتي راحت تستخدم كل ما تحت يدها من سلطات من أجل "أخونة" الدولة والتمييز في شغل المناصب العليا، وكأنها نالت تفويضاً على بياض، هي التي لم يحصل مرشحها الرئاسي سوى على ربع أصوات المقترعين في الجولة الأولى من انتخابات 2012 الرئاسية، قبل أن يحصد 51 في المائة فقط من أصواتهم في الجولة الثانية. وهكذا اضطر العسكر اضطراراً إلى التدخل لتصحيح مسار الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم مبارك في يناير 2011، وإنقاذها من ديكتاتورية "إخوانية" جديدة باسم "الشرعية" الممزوجة بالشعارات الدينية، والتي بدورها لا تخلو أحياناً من الخرافات والأساطير من أجل إضفاء القدسية على شخص "الرئيس المنتخب"، وبالتالي إطلاق يده فيما يفعل دون مساءلة. قد يكون من الصعب كثيراً على الديمقراطيين أن يقبلوا بالعسكر كبديل لحكومة مدنية منتخبة، بفعل سوابق العسكر في الاستئثار الطويل بالسلطة. لكن الضرورات تبيح المحظورات أحياناً، كما تقول القاعدة الدينية المعروفة، وخصوصاً في دول العالم الثالث، حيث الثقافة الديمقراطية غير متجذرة، ويمكن استغلالها أسوأ استغلال لتنفيذ أجندات أيديولوجية معادية للديمقراطية نفسها، بمعنى استخدام الديمقراطية كمطية للوصول إلى السلطة من أجل البقاء فيها إلى الأبد، وقمع الخصوم. والمقصود بالمحظورات هنا هو استلام العسكر للسلطة مباشرة من خلال انقلاب عسكري تقليدي كالانقلابات التي ألفناها في العالم العربي في الخمسينيات والستينيات، أو إطاحتهم بالحكومة دون الجلوس مكانها، بمعنى إسناد مهمة إدارة البلاد لفترة انتقالية إلى مدنيين يقودهم رئيس الجمعية التشريعية أو كبير قضاة المحكمة العليا أو المحكمة الدستورية، وهذا ما لم يحدث عربياً إلا مؤخراً. أما الضرورات فهي الحيلولة دون تغول الجماعة السياسية التي جاءت إلى السلطة في انتخابات عامة، وإقصائها لشركاء الوطن الآخرين، وصبغها للحياة السياسية بلون واحد على شاكلة ما فعله "الإخوان"، وما يسعى إليه حثيثاً أشباههم في تونس. المعارضون للعسكر المصري، وجميعهم من "الإخوان"، والدوائر الغربية التي صارت تراهن عليهم لخدمة مشاريعها الإقليمية المشبوهة، يصفون ما حدث بالانقلاب العسكري رغم عدم انطباق هذه الصفة عليه. فلا هم ادعوا أنهم قاموا بثورة على غرار ما فعله عسكر 23 يوليو، ولا شكلوا مجلساً لقيادة الثورة، ولا حلوا الأحزاب السياسية، ولا احتلوا الإذاعة كي يعلنوا منها البيان رقم واحد، ولا فرضوا الأحكام العرفية ومنع التجول حتى إشعار آخر، وإنما أقدموا على فعل استباقي يقي البلاد من الانزلاق نحو الهاوية، ويستجيب في الوقت نفسه لآمال الشعب. وفي سابقة تحسب لهم، لم يقص العسكر جماعة "الإخوان" من المشهد السياسي رغم إساءتها لهم، بل مدوا لها اليد مطالبين إياها بالانضمام إلى الركب من أجل رفعة البلاد. إن الحدث المصري، يشبه كثيراً ما حدث في الفلبين وكوريا الجنوبية وإندونيسيا في الثمانينيات حينما انحاز الجيش إلى جماهير الشعب الثائرة ضد أنظمتها القمعية الديكتاتورية، وسهلت مهمة إزاحتها دون الحلول مكانها، فكان ذلك إيذانا بحقبة جديدة ترسخت فيها مفاهيم الحكم الديمقراطي ومعالم الدولة المدنية. غير أنه في أماكن أخرى حدث العكس، بمعنى أن الجيش استشعر فعلًا نبض الجماهير الغاضبة على حكومتها، فسارع إلى إزاحة الأخيرة عبر انقلاب كلاسيكي أعطى فيه لنفسه صلاحيات واسعة، بل إن جنرالاته استمتعوا بكرسي الحكم ومباهجه، فلم يكترثوا بتحديد موعد لإعادة السلطة إلى المدنيين. حدث ذلك في تركيا في 1960 حينما انقلب الجنرال جمال جورسيل على حكومة "عدنان مندريس" المدنية التي خرج ملايين الأتراك عليها في الميادين، وحدث ذلك في الجزائر في عقدي الثمانينيات والتسعينيات اللذين شهدا تحكم الجيش في المشهد السياسي وإتيانه بأكثر من رئيس عسكري بملابس مدنية، وحدث ذلك مراراً وتكراراً في باكستان، لكن ليس استجابة لمطالب شعبية، وإنما تحقيق لأطماع سلطوية مثلما حدث في 1979، حينما أطاح الجنرال ضياء الحق بالرئيس المنتخب ذوالفقار علي بوتو واعدمه شنقاً، وما حدث في 1990 حينما أطاح الجنرال برويز مشرف برئيس الحكومة المنتخب نواز شريف. أما في دول أفريقيا السوداء وأميركا اللاتينية، فالأمثلة أكثر من أن تحصى. على ضوء ما سبق، وكحماية للديمقراطية من الاستغلال السيئ في بلدان العالم النامي تحديداً، يجد الديمقراطيون أنفسهم - شاؤوا أم أبوا – أمام معضلة حقيقية لن يخرجهم منها سوى التأكيد في دساتير بلدانهم على ضرورة إعطاء القوات المسلحة دوراً مشروطاً ومحدداً في الدولة الديمقراطية المدنية. وبعبارة أخرى جعلها وصية على الديمقراطية، تتدخل في الوقت المناسب لحمايتها من القوى السياسية المدنية المنتخبة الراغبة في الانجراف بالبلاد نحو ديكتاتورية الحزب الواحد والأيديولوجية الواحدة، شريطة أن يقنن نوع تدخل العسكر ومداه الزمني وتوضع له ضوابط، فإن تجاوزه سقطت شرعيته تلقائيا في الداخل والخارج. ومثل هذا الحل استوعبه مبكراً كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة، حينما جعل الجيش حامياً لدولته العلمانية. غير أن عدم تقييد الأمر بضوابط سهـّـل للعسكري التغول على المدني في الحالات التي أطاح فيها الجيش التركي بالأنظمة المدنية ابتداء من 1960. ويبقى السؤال: ماذا لو عمد الرئيس المدني المنتخب فور تسلمه السلطة إلى قصقصة أجنحة المؤسسة العسكرية وتقزيم دورها، والتخلص من قادتها الأصليين تمهيداً لإحلال الموالين لحزبه السياسي مكانهم، على نحو ما جرى ويجري اليوم في تركيا على يد "رجب طيب أردوغان"؟ د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين Elmadani@batelco.com.bh