اعتبر الرئيس الإيراني الجديد نفسَه ذكياً عندما خاطب الأسد قائلاً له: إنه سيظلُّ معه ضدَّ إسرائيل! لكنه يعرف أنّ الأسد ما بقي في السلطة شكلاً حتى الآن، إلا لأنّ إسرائيل وإيران تريدان ذلك، وقد قال لنا نصرالله إنه يتدخل في سوريا ضد التكفيريين ولحماية المزارات الشيعية، بينما قال نائب وزير الخارجية الروسي إنه يتدخل في سوريا لمنع سقوط دمشق! إيران في مأزقٍ مزدوج ولجهتين: لجهة احتياجها لإشعال حروب أهلية في العراق وسوريا ولبنان حفاظاً على مناطق نفوذها، وفي الوقت نفسه فإن روحاني نجح في الانتخابات الرئاسية في مواجهة مرشحي الحرس الثوري، المسؤول عن سياسات الداخل والسياسات العسكرية والأمنية تجاه العرب ودول الجوار الأُخرى خلال العقد المنقضي. وما أزال أذكر أنه قبل عامٍ ونيّف عندما برزت صعوباتٌ مع مجلس الشورى الإيراني في وجه الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس»؛ فإنّ سليماني ما وجد ما يدافع به عن نفسه غير القول إنه إن واجَهَ صعوباتٍ في إيران، فإنّ المصريين والإسلاميين العرب الآخرين سيدافعون عنه، لأنه بنى عشر إيرانات في العالمين العربي والإسلامي! وبسقوط «الإخوان» في مصر، فإنّ سليماني والحرس الثوري و«حزب الله»، أكبر إيرانات ولاية الفقيه في العالم العربي. فطوال سنة ظلّ مرسي، وظلَّ «الإخوان المسلمون» المصريون مصرّين على الاحتفاظ بالقائم بالأعمال المصري في دمشق، وظلّت الزيارات كثيرةً ومتبادلةً بين مصر وإيران. وحتى عندما أعلن مرسي قبل شهرٍ ونصف قطع العلاقات مع النظام السوري، ما قال شيئاً عن إيران، بل اكتفى بإظهار الانزعاج من تدخُّل «حزب الله» في سوريا. وما نزال نذكر المبادرة الرباعية لحلّ الأزمة السورية، والتي أدخل فيها مرسي تركيا وإيران، بينما كانت الجامعة العربية تحاول عزل النظام السوري، توصلا لإسقاطه! لذلك، وبعد يومين على قيام ثورة 30 يونيو في مصر على حكم «الإخوان»، وعزل مرسي، أَظهرت إيران مجدداً دعمها لـ«لإخوان»، ودعت «حماس» للعودة لحظيرة المقاومة! وما صبرت تركيا أردوجان صَبْرَ إيران. بل أعلن أردوجان معارضته لعزل مرسي، واعتبر ما حصل انقلاباً على الديمقراطية وصناديق الاقتراع، منذ اللحظة الأُولى. وقد تشجّعت إيران بتصريحات أردوجان وأوغلو، فجاء وزير الخارجية الإيراني إلى تركيا متأملاً تجديد «التحالف» مع تركيا في عدة أمور: في الملف الكردي، وفي الملفّ السوري، وفي دعم جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي! وما توصَّل الحليفان السابقان إلى اتفاق في أكثر الأُمور. فتركيا أردوجان شديدة الانزعاج لتدخل إيران و«حزب الله» في سوريا لصالح الأسد، بينما- ورغم دعوات أردوجان لتنحّي الأسد، وسماحه بدخول السلاح والمسلحين إلى شمال سوريا؛ فإنه بخلاف إيران ما أرسل جندياً واحداً إلى سوريا. وتركيا منزعجة جداً لمحاولات الجنرال سليماني تخريب الاتفاق التركي مع الأكراد. إذ عرض سليماني على المسلحين الأكراد المنسحبين إلى شمال العراق من تركيا، السلاح الثقيل ليعودوا لمقاتلة الجيش التركي. والإيرانيون يرون أنّ تركيا تجاوزت الحدود المعهودة في معاداة النظام السوري المتحالف معهم، كما يرون أنّ تنسيقاً كان جارياً بينهما لعقدين من الزمان في الملف الكردي، بينما سارع الأتراك إلى مصادقة البارزاني، والاتفاق أخيراً مع حزب العمال الكردستاني، حليف «بيجاك» (التنظيم الكردي الإيراني) الذي يناوش الجيش الإيراني من داخل المنطقة الكردية العراقية أيضاً! ما تعطّل النظام العربي بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، بل ربما تعطّل مع الغزو الصدّامي للكويت عام 1990، وخلال هذا الغياب العربي الطويل ما سلك الأتراك تجاه العرب المسلكَ الذي خاضه الإيرانيون. فهناك فارقٌ زمني من جهة، لأن أردوجان وحزبه ما وصلا للسلطة إلا عام 2002، وكانوا شديدي الحذر حيال الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وظلّوا على الحياد، وما أعطوا الأميركيين تسهيلات رغم عضويتهم في «الناتو»، أمّا إيران فأدخلت إلى العراق بموافقة الأميركيين إبّان الغزو وبعده أكثر من خمسين ألف مسلَّح باعتبارهم من قوات المعارضة العراقية. وخلال السنوات الثلاث الأُولى للغزو ناوشت إيران العسكر الأميركي من خلال حركات مقتدى الصدر وجيش المهدي. وعندما استتبّ الأمر لحلفائها بالعراق بعد عام 2005، صارت علاقتها مع أميركا بشأن العراق تجاذبية وتشاورية في الوقت نفسه، بينما اتجهت تركيا لتوثيق علاقاتها بالمنطقة الكردية للحاجات المشتركة والمتبادلة، ونمّت علاقاتها التجارية بنظام الأسد. ومع استمرار الغياب العربي، اتجه الطرفان للتعاوُن والتقاسم، فالأتراك اعتبروا أنفسهم مسؤولين عن الإسلام السني، والإيرانيون عن الإسلام الشيعي، وقبضة الأتراك ناعمة، وقبضة الإيرانيين قاسية، لذلك رضي الأتراك بالدور الثاني، وبالتبادل التجاري، والصداقات والاتفاقيات، بينما كان الإيرانيون يتجهون للاستيلاء على العراق ولبنان بالغلبة عن طريق التنظيمات الشيعية المسلَّحة، والجهاديين والإسلام السياسي (السني) عبر حمل راية فلسطين، ودعم هؤلاء ضد الأنظمة باستثناء النظام السوري، وعندما أنجز الإيرانيون اتفاقهم مع الأميركيين عام 2010 من أجل ترتيب انسحابهم من العراق، بدا أنّ الأميركيين استخلفوهم في العراق وسوريا ولبنان، شريطة عدم التحرش بإسرائيل. لذلك ما اعترض الأميركيون جدياً عندما استولت «حماس» على غزة عام 2007، و«حزب الله» على بيروت عام 2008، وحكومة المالكي الثانية في العراق عام 2009، و«حزب الله» على حكومة لبنان عام 2011، بعد أن أعادوا السفير فورد إلى سوريا عام 2010! لقد صَغُر دور الأتراك الأردوجانيين كثيراً بالاستيلاء الإيراني، لذلك ما عاد يمكن الحديث عن «شراكة» بينهم وبين إيران. لذا فقد سُرُّوا كثيراً باندلاع أحداث «الربيع العربي»، وبخاصة في سوريا. ثم سُرُّوا أكثر بوصول «الإخوان» إلى السلطة في مصر وتونس، وكانت وجهة نظرهم أن الإسلاميين الذين صادقوا إيران عندما كانوا في المعارضة، سيجدون مصلحتهم في مصادقة تركيا عندما وصلوا للسلطة، وقد انطبق ذلك ليس على «إخوان» سوريا فقط (الذين احتضنتهم تركيا منذ اللحظة الأولى)؛ بل وعلى «إخوان» مصر وتونس و«حماس» و«إخوان» الأردن، وهكذا فقد ظهر ثمة تنافُس بين الطرفين الإيراني والتركي على المشرق ومصر، دون أن يطفو هذا النزاع على السطح بسبب ضخامة المصالح الاقتصادية والملفات المشتركة. لقد صعُب على الإيرانيين إدراك أعماق حركات التغيير العربية، لذلك أمعنوا في سياسات الاستهداف والتقسيم للإعاقة والإحباط، وكأن ما حصل لا يستدعي المراجعة، وكان الأتراك أكثر إدراكاً فأيدوا «الربيع العربي» بعد إعاقة في ليبيا، لكنهم عادوا فسقطوا في الوهم بظهور الإسلام السياسي على السطح. وبعد الضربة المصرية التي عنت انكساراً لموجة الإسلام السياسي، ما يزال الإيرانيون على عنادهم رغم انتخاب روحاني المعادي للحرس الثوري، إنما الطريف أنّ أردوجان أيضاً ما يزال على أمله في عالمية جماعة «الإخوان» التي اجتمعت أخيراً بإسطنبول، إنما إلى متى؟ يحتاج الإيرانيون إلى خطاب جديد بالداخل وتجاه العرب، وكذلك أردوجان بعد الجراح التي نالت منه باحتجاجات إسطنبول، فالعرب يحضرون من جديد رغم التعثرات الكثيرة، وفي مصر وسوريا والعراق. ودولتا الجوار الكبيرتان (بعد استفاقة مصر ودول الخليج على الأخطار) مضطرتان للمراجعة، وللخطاب الجديد، والتصرفات الجديدة، أو يخالطهما التأزُّم ليس في السياسات الداخلية فقط؛ بل وعلى الخصوص في السياسات تجاه العرب، التي عركت إيران في أعاصيرها!