يسبح الإنسان عادة في مشاعره مثل الخوف والحزن والشك والغضب والحياء والشهوة، بين ثلاثة حقول أو قطاعات ودوائر، كل دائرة تتداخل مع التي جنبها، بحيث إننا لو أردنا أن نرسم هذه الدوائر الثلاث التي يتحرك ضمنها الفرد لقلنا: إنه شيء طبيعي أن يخاف الإنسان أو يحزن بين حين وآخر وهي الدائرة (الطبيعية) لكل إنسان، ولكن أيضاً من الطبيعي أن يخرج من هذه الدوائر وهي حالة الصحة النفسية. فإذا بدأ المرء في الدخول والبقاء أكثر فأكثر تحت تأثير مشاعر الكره والحقد على فرد ما، أو وضع ما، دخل الدائرة الثانية وهي ما يعرف في علم النفس بحالة «العصاب» Neurosis فإذا تزحلق إلى الدائرة الثالثة فلم يعد يستطيع الفكاك منها، يكون قد انتقل إلى حالة «النفاس» Psychosis أو «الذهان» وبدأت المشاعر السلبية من التمكن منه والاستحكام بمنافذ العقل، فتصوّر الواقع على شكل «إجرامي تآمري شرير»، وبذلك يكون قد وقع في حالة ما يعرف عند الناس بالجنون. والمجانين الذين يمشون بيننا وليسوا خلف القضبان كثيرون، وكل ما علينا هو التأمل في تصرفات البشر، وتحليلها ومعرفة الدوافع الكامنة خلفها وهل هي متزنة عاقلة أم لا؟! فأن يكره الإنسان شخصاً ما لفترة ما فهذا يقع تحت المعقول، ولكن أن يعيش على الحقد، ويتغذى بالكراهية، خاصة إن كان من أفراد عائلته، فيكره أخته أو أخاه، لا يكرهه فقط بل يكره كل ما حوله ومن وما يقترب منه بأربع أذرع! يكره الزوج والأولاد والأحفاد وحتى النسل السابع!! يكره الأرض التي تقله، والسماء التي تظله، والماء الذي يشرب، والطبيعة التي تحوطه، والنباتات التي بجانب مسكنه، فهي كلها مؤشرات لاختلال عقلي يتناسب مقداره مع شحنة الكراهية وجرعة الحقد. وبهذا الانفصال عن الواقع، والانفكاك عن طبيعة الوجود، يبدأ العقل في العمل بكيفية مضطربة جانحة لصاحبه ولمن حوله. مرت عليَّ تجربة لا تنسى من مصح الأمراض العقلية حين كنا نتدرب في سنوات الطب الأخيرة حين اجتمعت بمصاب بداء الزور «البارانويا»، تأملت الرجل غير مصدق، لأنه كان يتكلم بمنطقية، وكلام متزن متماسك، ليس مثل المرأة التي جاءت بعده والمصابة بالفصام «الشيزوفرينيا» التي تحدثت بكلام مفكك، وجمل ممزقة، ولغة مدمرة، وعقل بائس، ومنطق مقيت. إلا أن بعض الجمل التي خرجت من ثنايا حديثه كشفت عن مدى انهيار العالم الذي يعيش فيه، فهو ساعة يتوهم أنه يلبس مسوح عيسى عليه السلام، وساعة أخرى يتحدث مع شخصيات عالمية وقادة مهمين، الأحياء منهم والأموات! كان انفصاله عن الواقع كاملاً ومأساوياً، وتردى في هوة ليس بخارج منها. وهذا الخلل العقلي الرهيب جعلني أعيد النظر في منظومة وجود الإنسان كله لاكتشاف عالم جديد يقبع في داخل كل منا، كأن الواحد فينا مجموعة من شخصيات، وكوكبة من أحياء، وزمرة من أشباح. ما الذي يحدث للدماغ حين يختل التفكير، وتمرض النفس، وتعتل الشخصية، وينحرف المزاج؟ لا شيء باستثناء هامش محدود، وقطاع صغير من اضطراب خلوي لا يعبأ به، ولا يشكل ثقلاً في الميزان، أو حسماً في القضية. وكذلك العبقرية والإبداع فكلا التشكلين سواء الجنون أو العبقرية، يمران عبر الألياف العصبية الدماغية، ويعبر الدماغ عنهما بواسطة الجملة العصبية المركزية، ولكن لا ندري تماماً كيف ولماذا وأين ومتى يقع ذلك؟ وتبقى الأسئلة الكبرى معلقة، والأبحاث الإنسانية تنتظر الرد. أين مكان العبقرية؟ أين مكان الجنون؟ أين مكان التفكير؟ كيف تتشكل الأفكار؟ كيف تتجلى العبقرية؟ كيف تترابط الجمل وتتفاعل الكلمات والمفاهيم؟ كلها أسرار، فالدماغ ما زال هو القارة المجهولة التي لم تكتشف بعد، كما أن دماغ آينشتاين الذي أعيد فحصه مرات بعد موته، لم يكشف عن شيء غير طبيعي. لقد اخترق الإنسان جغرافية الأرض فلم يترك جزيرة إلا وسماها، ولا محيطاً إلا وأعطاه لقبه، ولا عمقاً إلا وسبره، ولا سطحاً إلا ومشى عليه، حتى القمر رسا عليه، والكواكب القريبة بعث إليها بالأقمار الصناعية، واسترَق السمع وحدق بالنظر في الفضاء بواسطة الأشعة السينية والراديوية وتحت الحمراء، إلا مكاناً واحداً استعصى عليه، وناصبه التحدي، وكابر أن يفك له رموزه وأسراره، ذلك هو الدماغ.