من بين المعارك السياسية الضارية التي تدور رحاها تحت قبة مجلس النواب حول إصلاحات مقترحة لقانون الهجرة، كانت أسخنها تلك التي تمحورت حول منح تأشيرات الدخول للعمال ذوي المهارات المهنية الضعيفة وكبار السن والمزارعين والبنائين وعمال النظافة والمطاعم والخادمات. ومن خلال هذا الجدل، يتبادر إلى الأذهان التساؤل التالي: إذا منحنا تأشيرات دخول للعمال الأجانب ذوي المهارات الضعيفة، ألا يُعدّ ذلك إعلاناً صريحاً بأن العمال الأميركيين كسولين وغير مؤهلين لأداء مثل تلك الأعمال البسيطة أو أنهم لا يجيدون إنجازها أصلاً؟ لا شك أن هذا تصوّر خاطئ وإهانة لا يستحقها العمال الأميركيون، فحاجة الاقتصاد الأميركي لاستقدام العمال من الخارج تعد مؤشراً على قوة العمالة المحلية. وإذا لم تأخذ الولايات المتحدة مشكلة هذا النقص الحاد بعين الاعتبار، فسوف يؤدي ذلك إلى إضعاف النتائج المرجوّة من الجهود الإصلاحية المطروحة الآن على الطاولة والرامية للحدّ من عدد العمال الوافدين بطريقة غير شرعية إلى البلاد. ولابد من الاعتراف بحقيقة وجود نقص في عدد العمال الأميركيين المتخصصين في أداء مثل تلك الأعمال البسيطة. ووفقاً لإحصائيات أنجزها المكتب الأميركي للعمل BLS، سوف تحتاج الولايات المتحدة إلى 3 ملايين عامل إضافي خلال العقود الثلاثة المقبلة من أجل إشغال الوظائف التي تحتاج إلى أقل قدر من الخبرة والمهارة، وهي وظائف لا تتطلب أن يكون العامل حاصلاً على شهادة الثانوية العامة، وذلك لتحقيق النمو الاقتصادي المخطط. وتشتمل هذه الوظائف على عمال الصحة المنزلية وتحضير الأطعمة والأغذية والنقل ورعاية الأطفال والتنظيف وأعمال الحدائق العامة وصيانة الطرقات والبناء. وخلال الفترة ذاتها، سوف يكون العدد الإجمالي للعمال الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و54 عاماً ويصنفون في مستويات المهارة المختلفة 1.7 مليون شخص. وسوف يسجّل نقص كبير في عدد العمال الذين تقلّ أعمارهم عن 24 عاماً. ويتطلب الأمر التفكير في الموضوع بطريقة أبسط. فحتى لو تسرّب كل طلاّب المدراس والجامعات إلى سوق العمل من الآن وحتى نهاية العقد المقبل، وهم الذين سيحتكمون عندئذ لمهارات العمل الضعيفة، فإنهم سيسدّون نحو نصف الحاجة إلى هذه الوظائف فقط. وبالطبع، يكون من الواجب العمل على منع هؤلاء الطلاب من التوقف عن تلقّي المزيد من التعليم. وفي أسوأ الأحوال، سوف تكون ثلاث من كل أربع وظائف مشغولة من طرف عمال وافدين من خارج الولايات المتحدة، وإلا فإن هذه الوظائف لن تجد من يشغلها. وهذا يؤكد أن الظاهرة لا علاقة لها بالكسل، بل الأمر محكوم بالأرقام والإحصائيات. لقد أصبح الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة مرتبطاً بقانون الهجرة، إلا أن هذه العلاقة غالباً ما كانت توضع على هامش الجدل السياسي الدائر تحت قبة الكونجرس أو يتم تحديد المواقف فيها بطريقة غير واقعية، وربما لأن بعض الإصلاحيين يفضلون مهندساً هندياً متخصصاً في البرمجيات الحاسوبية على عامل مصنع مكسيكي غير متعلم. وسوف يتيح مشروع القانون الذي حظي بموافقة الكونجرس مؤخراً منح بضع مئات الألوف من تأشيرات العمل الدائمة (تأشيرة دبليو) للعمال الأجانب، بحيث لا يزيد عددها على 600 ألف تأشيرة حالياً. ويجب الانتباه إلى أن تصحيح أوضاع العمال الأجانب غير النظاميين المقيمين في الولايات في إطار الإصلاحات الجديدة لن يسهم في حل المشكلة لأنهم يشغلون وظائف في سوق العمل بطبيعة الحال. كل هذا يشير إلى أنه حتى لو عمدت الولايات المتحدة إلى تصحيح الأوضاع القانونية لملايين المهاجرين، فمن المرجح أن تتكرر فيها مشكلة الهجرة غير النظامية بعد بضع سنوات. وسبق أن رأينا كيف أن إعادة تصحيح أوضاع عدد ضخم من المهاجرين غير النظاميين في عهد ريجان عام 1986 لم يحل إلا جزءاً ضئيلاً من المشكلة على المدى المتوسط. وقبل إطلاق عملية التصحيح هذه، كان هناك 3 ملايين مهاجر غير قانوني، وبعد خمس سنوات فقط من إطلاقها بلغ عددهم 3 ملايين مرة أخرى. وكان السبب الأساسي لهذه الظاهرة المحيّرة أن الإصلاحات التي اعتمدت في حينه كانت ذات خلفية سياسية بحيث تساير شروط منظمة العفو الدولية (أمنيستي) ودواعي الأمن الوطني بدلاً من التركيز على الحاجات الحقيقية للاقتصاد من العمالة الوافدة. ولم تكن تلك الإصلاحات مبرمجة ولا مخططة لهدف تأمين حاجة الاقتصاد الأميركي الماسة للعمالة غير الماهرة، بل كانت تخدم أهدافاً سياسية ومصالح ضيقة أخرى. وفي النتيجة، وجد أرباب العمل أنفسهم أمام خيارين مرعبين: فإما أن يتجهوا إلى السوق السوداء أو أن يواجهوا عواقب النقص المزمن في العمالة غير الماهرة، ما أدى أخيراً إلى عرقلة سير العمل وإغلاق بعض المزارع، وأصبح الأطفال والمسنّون يفتقدون للرعاية المناسبة. ولن تجد هذه المشكلة حلاً ما لم تتم معالجة مشكلة منح تأشيرات دخول العمالة الوافدة غير الخبيرة بدرجة أعلى من المرونة وانطلاقاً من الحاجة الحقيقية لأرباب العمل. وهذا أمر مستبعد في الوقت الراهن. ويشار إلى أن معضلة نقص العمالة غير الخبيرة تُعدّ مؤشراً على القوة والإنتاجية العالية للعمالة الماهرة في الولايات المتحدة. وهي واحدة من المظاهر التي تستحق أن يفتخر بها الأميركيون. ولقد تزايد معدل إكمال الدراسة الثانوية في أميركا بشكل سريع خلال العقود الماضية بالنسبة لجميع المجموعات الإثنية التي تستوطن البلاد. وأدى ذلك إلى ارتفاع معدل العمال المهرة وزيادة عدد الوظائف المخصصة للعمالة الخبيرة. ويبدو واضحاً أن العمال المهرة يعملون مع عمال مهرة آخرين، وبات هذا النوع من عمل الفريق المتجانس واضحاً للعيان. لكن يجب أن يكون هناك نوع آخر من عمل الفريق في صلب «الاقتصاد الذكي»، ذلك لأن العمال الأكثر خبرة يخلقون أيضاً مناصب العمل المناسبة للعمال الأقل خبرة. مايكل كليمين مدير قسم بحوث المركز العالمي للتنمية في واشنطن ينشر بترتيب مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»