في ظل «ترددات الربيع العربي» اليوم، بات الكل يشتكي من الممارسات الإقصائية للآخر، حتى اختلط الحابل بالنابل، فبتنا نخلط بين الرأي والرأي الآخر، وبين ادعاء امتلاك الحقيقة وتمثّلها بشكل حصري في كل فرد فينا، متناسين أن الخلاف هو في حقيقته تعبير عن عملية إدارة لبرنامج ما ضمن الظروف المتاحة وما يراه صاحب الموقف مناسباً، فتحولنا إلى أصحاب فكر إقصائي لا نفكر إلا بلون واحد يحق لنا معه تقرير مصير البلاد والعباد! لغوياً، قد تعني كلمة الإقصاء... الاستبعاد، لكنها اليوم في عصر صراع الهويات المذهبية والطائفية عبر أيديولوجيا القوة، تعدّت ذلك وأضحت تعبيراً عن عدم ثقة بالذات ربما أكثر من أي شيء آخر، ذلك أن من يخشى التعايش مع الآخر يخشى الذوبان والعزلة، لذا يلجأ للفكر الإقصائي الذي لا محالة سيؤدي به، على عكس ما يرغب، إلى العزلة الأشد! وعملياً، فإن التمترس في زاوية من زوايا الوطن، واللعب على وتر «الشرعية» يضيع البلاد. مثلا، بعد وقوع الانقسام والانشطار الفلسطيني، تمسّكت حركة «حماس» بالسلطة في قطاع غزة معتبرةً نفسها الحكومة «الشرعية»، بينما تشكّلت في الضفة الغربية حكومة انتقالية اعتبرت نفسها صاحبة «الشرعية». وبين «شرعية» هذه وتلك، ضاعت الأولويات الفلسطينية العاجلة: التصالح وتوحيد الوطن الواحد، رغم اقتناعنا بأن كلا الفصيلين الفلسطينيين الكبيرين يريدان لوطنهما التحرر من الاحتلال، لكن السبل تفرقت بهما في اختيار الوسائل. لكن المفجع أن الأمر لم يتوقف عند حد الاختلاف في الرؤى والتوجهات وتقييم الواقع وطرق التعامل معه، وإنما تحول، في مرحلة سوداء، إلى اقتتال سالت فيه دماء كان من المفترض أن تسيل من أجل الوطن والأرض والشعب، مما ترك أثراً على مصداقية الفصيلين في نظر الشعب الفلسطيني وعموم العرب، خاصة مع استمرار الانقسام. نعلم أن هناك قوى إقليمية ودولية، ولمصالح خاصة بها، لا تريد للساحات العربية أن تنجح في مشروعها التحرري والخروج من تبعيات أنظمة ديكتاتورية استبدادية سادت لعقود طويلة. لكن الطامة الكبرى تكمن في نشوء نتوءات عربية داخلية شاذة، لا تريد للحوار أن ينجح وتسعى لترسيخ انقسام المجتمعات العربية لدوافع أيديولوجية أو مصلحية ضيقة عبر مرض الثقافة الإقصائية: اتهام الآخرين من أبناء الوطن في نياتهم، ورفض أي حق جاؤوا به، والتشكيك في أفعال ومواقف الآخرين، بل اعتبارهم مجرد تجار سياسة (ربما خونة أو كفاراً) يبحثون عن مصالحهم الذاتية ويهدرون المصالح العامة للأمة! واليوم، في عواصم «الربيع العربي» خاصة، هناك انقلاب يمزق مكونات النسيج المجتمعي. وللأسف، يبدو أن خطر انهيار «بنيان الحقوق» ليس كافياً لدفع الشعوب العربية إلى وحدتها الوطنية، ملاذها الوحيد للخروج من «الترددات السلبية للربيع العربي». وفي مواجهة هذا الخطر المحدق، يبدو المشهد العربي عبثياً، يخلو من كل جميل، اللهم إلا المجادلات والخلافات، وتصيد الشبهات، وتضخيم الأخطاء، وهدم ما يفعل الآخرون، ودغدغة مشاعر العامة بمفردات وعبارات هدفها تشويه من لا يتفقون معهم في رؤيتهم. وللأسف، ومن ألم شديد، فإن معظم القادة الجدد في عواصم «الربيع العربي» لم ينجحوا في نفض غبار الأنظمة السابقة، حيث تبين أن هدفهم الأول هو الوصول لمنصب سياسي أو الاستئثار بالسلطة، مع التواصل ليس مع أفراد الشعب بمختلف أطيافه ومستوياته من خلال حوار حقيقي للوصول إلى نتائج إيجابية تعالج هموم الشعب ومطالبه الحقيقية، بل مع أنصارهم فقط. ولم ينجح هؤلاء في ملء الفراغ السياسي الذي كان قائماً، ولم يتمكنوا من تفريغ الاحتقان الطائفي الذي كان كامناً على الصعيد الديني والعشائري والطبقي، بل ربما سعوا للاستئثار بمفاصل السلطة المجتمعية بكاملها. لقد بات مطلوباً من القوى الوحدوية إدراك واجبها في إخراج الحالة العربية الراهنة من النفق الانقسامي، والعمل على استعادة الوحدة الوطنية الشاملة، والاتفاق على خطة وطنية متكاملة لمواجهة المخاطر والتحديات. لذا، ليس من مصلحة المجتمعات السياسية العربية، اليوم أو لاحقاً، إقصاء أي تيار سياسي عن الساحة، رغم ضرورة معالجة المشاكل مع تيار «الإسلام السياسي»، ومصر أكبر مثال على ذلك. والجميع في مصر (وغيرها) مواطنون من حقهم ممارسة العمل السياسي طبقاً للقانون، لكن بشرط تحولهم إلى أحزاب سياسية مدنية، بمعنى منع قيام أي نشاط سياسي على أساس ديني أو مرجعية دينية، لأن إدخال الدين في السياسة يضر بهما معاً، ولا شك أن أي تنظيمات اجتماعية أو مؤسسات أو نقابات يجب أن تخلو من التمييز، سواء الجنسي أو العرقي أو الديني، وهذا الأمر يجب أن يباشر في تنفيذه من خلال المناهج التعليمية التي تعمل على إرساء قواعد احترام الآخر والمساواة، بحيث ينشأ مجتمع صحي يعتمد على مبدأ تكافؤ الفرص مع ترسيخ مبدأ «الدين لله والوطن للجميع». والإقصاء تحت ذريعة الاختلاف الفكري أو المذهبي أو الطبقي، لا يتفق مع قواعد الديمقراطية السليمة التي تقوم على أساس التكافؤ والمساواة. والحل يكمن في التشاركية، إذ تحتاج المرحلة القادمة إلى جهود جميع أبناء الوطن في بناء المستقبل وطي صفحة الماضي بعد تجاوز «العقلية غير التشاركية» التي لابد وأن ينتج عنها: الطرد والإبعاد وفتح شهية القوي للاستيلاء على كل شيء. ختاماً، أو ليس علينا ملاحظة تحول الصراع في الساحات العربية إلى صراعات داخلية، وهو هدف إسرائيلي بالمرتبة الأولى، حيث لم يعد يرفع شعار واحد يذكّر بالقضية الفلسطينية أو حتى بما يجري من تنكيل بحق الفلسطينيين؟! وقد تأكد للمرة المليون أن إسرائيل تنام-حين تنام- على مخدة من حرير وتجلس على قفاها مقهقهة من أوضاعنا ومستمتعة بالفرجة على نتائج مرض الإقصاء في عواصم «الربيع العربي» التي أضعفت القوى المعادية لإسرائيل وأنهكت قواها ودمرت بناها التحتية... لكن طبعاً إلى حين.