من المفارقات الغريبة في عالم الطب أن الوفرة الاقتصادية والمالية، كثيراً ما تصبح نفسها عامل خطر، مؤهلاً للإصابة بمجموعة من الأمراض، تعرف بأمراض الثراء أو أمراض الأغنياء (Diseases of Affluence) . وتضم هذه المجموعة على سبيل المثال وليس الحصر: داء السكري، والسمنة، وأمراض القلب، والسرطان، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض المناعة الذاتية، والربو الشعبي، وإدمان الكحوليات، والاكتئاب، وطيفا آخر من الأمراض النفسية. وتتشابك العلاقة بين بعض تلك الأمراض، بحيث يصبح بعضها سبباً أو نتيجة لبعض آخر، مثل السمنة والتي تنتج جراء الإصابة ببعض الأمراض، أو أن تتسبب هي ذاتها في الإصابة بأمراض أخرى. وينطبق هذا الوضع أيضاً على الوفرة في الإمكانيات المالية المتاحة في المجال الطبي، حيث يؤدي مثلًا توفر المصادر الموجهة لشراء المضادات الحيوية، إلى إساءة وزيادة استهلاك هذه الطائفة من الأدوية والعقاقير، وهو ما ينتج عنه بالتبعية ظاهرة مقاومة المضادات الحيوية، وتخليق ما يعرف بالجراثيم الخارقة (Superbugs). خطورة هذه المشكلة، وخصوصاً على دول منطقة الخليج، اتضحت مؤخراً من خلال نتائج دراسة أجراها مركز الأبحاث السريرية بجامعة كوينزلاند الأسترالية، والتي أظهرت حدوث زيادة بنسبة 90 في المئة في مدى انتشار أحد الأنواع الخطيرة من تلك الجراثيم الخارقة في دول التعاون الخليجي، خلال العقدين الماضيين فقط. ورغم أنه لم تتوفر بيانات عن عدد حالات العدوى، وما ينتج عنها من وفيات، فإن الدراسات الطبية الأخرى تظهر أن نصف حالات العدوى بهذا النوع من البكتيريا (Carbapenem-resistant bacteria)، يلقون حتفهم في النهاية. ويلقي القائمون على الدراسة، والتي نشرت نتائجها في إحدى الجرائد المحلية الصادرة باللغة الإنجليزية، بتفاقم هذه الظاهرة، على فرط استخدام المضادات الحيوية في المنطقة، دون وجود سبب قهري أو ضروري لتعاطي هذه المواد الكيميائية قوية المفعول، بالإضافة إلى إساءة الاستخدام، والمتمثلة في عدم إتمام فترة العلاج بالكامل، أو استخدام نوع خاطئ من المضادات الحيوية، لا يجدي نفعاً مع نوع البكتيريا المسببة للعدوى. ويضاف إلى هذا السبب الرئيسي أسباب أخرى، مثل عدم الالتزام بإجراءات وتدابير النظافة في المستشفيات والمراكز الطبية، وبالتحديد نظافة اليدين، بالإضافة إلى خصوصية المنطقة، والمتمثلة في سيولة وحركة دائمة لعمالة وافدة، قد يحمل بعضها أنواعاً مختلفة من الجراثيم الخارقة من موطنها الأصلي إلى دول المنطقة. وعلى الرغم من أن بيع المضادات الحيوية من دون وصفة طبية، هو فعل مخالف للقانون في جميع دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أنها ممارسة شائعة في 68 بالمئة من الصيدليات في أبوظبي، و78 في المئة في الرياض، على حسب ما نشرته الجريدة المحلية. حيث قامت مثلًا 87 صيدلية من بين 88 صيدلية شملتهم الدراسة في السعودية، ببيع مضادات حيوية للمستهلكين، دون وجود ضرورة طبية، وبدون وصفة طبية،. ولذا يطالب القائمون على الدراسة، بضرورة تفعيل الإرشادات والإجراءات المنظمة لاستخدام هذه النوعية من العقاقير الطبية، بشكل يتوافق مع توصيات منظمة الصحة العالمية الصادرة في تقرير خاص عام 2001، والذي نص بشكل واضح على أن إساءة استخدام المضادات الحيوية، يعتبر من القوى المحركة الرئيسية خلف تفاقم ظاهرة مقاومتها من قبل البكتيريا والجراثيم، بما سينتج عن ذلك من عواقب وخيمة. هذا الموقف عبرت عنه مديرة المنظمة الدولية، من خلال كلمة ألقتها ضمن فعاليات مؤتمر عقد في العاصمة الدانماركية عن الأمراض المعدية في نفس العام، عندما أطلقت تحذيراً حينها بأن الجنس البشري على مشارف "عصر ما بعد المضادات الحيوية" (post-antibiotics era). منوهة بأن العديد من أنواع العدوى البكتيرية البسيطة التي يمكن علاجها حالياً بكل سهولة، ستعود إلى سابق عهدها من الفتك بضحاياها، دون أن تجدي معها المضادات الحيوية نفعاً، وفي هذا السيناريو المرعب، لن يصبح في الإمكان إجراء العمليات الجراحية الروتينية، أو التدخلات الطبية البسيطة، لأن المرضى الذين سيخضعون لتلك العمليات والإجراءات، سيلقون حتفهم، ليس من الجراحة ذاتها، أو من النزيف، أو حتى من التخدير، بل من العدوى البكتيرية التي ستصيب مكان الجرح وموضع الجراحة، لتنهش البكتيريا جسد المريض، وتقتله في النهاية. وحتى الأمراض والعلل البسيطة، التي ينظر إليها حالياً بقدر كبير من الاستخفاف، مثل التهاب الحلق، أو جرح في ركبة طفل سقط من على دراجته، ستعود لتحتل موقعها التاريخي على قائمة أسباب الوفيات بين أفراد الجنس البشري. ومما يزيد الطين بلة، الدور المتوقع لظاهرة العولمة، وزيادة حركة السفر والترحال، في تسهيل تخطي الحدود والحواجز الجغرافية والسياسية للأنواع المختلفة من البكتيريا الخارقة، بشكل لا يمكن معه أبداً النظر لهذه المشكلة على أنها مشكلة محلية أو إقليمية بجميع المقاييس، فالبكتيريا الخارقة التي ستتولد أو تتخلق في مكان ما من العالم، سيصبح في استطاعتها الانتشار لبقية مناطق وأرجاء العالم في خلال ساعات أو أيام قليلة، وهي الحقيقة التي تفرض ضرورة تضافر الجهود الدولية، قبل أن نغرق جميعاً في ظلام عصر ما بعد المضادات الحيوية. د. أكمل عبد الحكيم