كان انتخاب أوباما كأول رئيس أسود للولايات المتحدة عام 2008 حدثاً عالمياً بكل المقاييس، وتأثيراته امتدت بعيداً إلى ما وراء الحدود الأميركية. تضاعف أثر ذلك الانتخاب المتميز بتاريخيته الذاتية بسبب مجيئه في أعقاب حقبة أميركية نيومحافظة بقيادة بوش الابن اتسمت بالشراسة وإطلاق الحروب، من أفغانستان إلى العراق إلى الحرب ضد الإرهاب. تنفس العالم الصعداء يومها وانطوت صفحة مظلمة من السياسة الأميركية المتطرفة، واستعد كثيرون لمنح الرئيس الجديد كل الفرص كي يمسح الآثار البشعة التي تركتها البوشية. لكن بعد مرور الفترة الانتخابية الأولى وما تلاها تبين كم كان سقف التوقعات آنذاك مرتفعاً، حيث ظهر أوباما رئيساً متردداً وخاضعاً لضغوطات ولوبيات، ومخيباً لآمال الكثيرين. وفي كتابه الجديد «الأمة غير الضرورية: السياسة الخارجية الأميركية في تراجع»، يحلل فالي ناصر، الدبلوماسي الأميركي السابق والأكاديمي في جامعة جون هوبكنز (من أصول إيرانية)، معالم ذلك الفشل. يركز ناصر على فشل السياسة الأميركية في أفغانستان وآسيا عموماً، وينتقد الاستراتيجية الأوبامية في نقل ثقل الوجود والاهتمام الأميركي من الشرق الأوسط إلى آسيا. ويناقش فشل أوباما في تحقيق وعوده والارتقاء إلى مستوى الخطاب البلاغي الشهير الذي ألقاه بجامعة القاهرة وتوجه به إلى العالم الإسلامي. هناك الكثير مما يمكن نقاشه حول الأوبامية وفشلها، لكن تتوقف هذه السطور عند فشلها إزاء القضية الفلسطينية والاقتراب جدياً من ملف الصراع العربي الإسرائيلي. في بداية حكمه واجه أوباما أجندة مزدحمة داخلياً وخارجياً. آنذاك كانت أميركا وأوروبا واقتصادات العالم الأول برمته تعاني من أزمة الانهيارات المالية المتتالية. وكانت القيادة الاقتصادية والمالية للولايات المتحدة محط تساؤل وشك عميقين من قبل الدائنين المحليين والخارجيين على حد سواء. وكان على أوباما مواجهة شبكة معقدة من العلاقات المتوترة والغامضة مع روسيا والصين على وجه الخصوص، لا سيما وأن القراءات والتحليلات المستقبلية تشير إلى صعود القوة الصينية في العقود القادمة، ليس كمنافس للقوة الأميركية، بل وكمتجاوز لها. وفي الجوار الأميركي اللاتيني هناك الكتلة اليسارية التي تتمحور حول فنزويلا ببوصلة معادية لأميركا. وعولمياً كانت هناك تحديات التدهور البيئي وهشاشة اتفاقات التجارة العالمية وعدد آخر من المعاهدات الدولية التي تواجه مآزق عدة يعود تطورها إلى السياسة الانفرادية الأميركية خلال حقبة بوش الابن. أما في «الشرق الأوسط الكبير» وجواره فقد كانت أقدام الولايات المتحدة تغوص في رمال حربين لا أفق لهما، في أفغانستان والعراق، إضافة إلى الصراع العربي الإسرائيلي وتلاحق فشل التسويات، والآمال المتضخمة التي علّقها العرب على قدوم أوباما. كل ذلك يتفاعل في مناخ دولي وشعبي عالمي أحد سماته الأساسية، ارتفاع مستوى الكراهية للولايات المتحدة في العالم إلى درجات غير مسبوقة. لم يضع أوباما مسألة الصراع العربي الإسرائيلي في أولويات أجندته الدولية، في ظل ازدحامها بقضايا أخرى، وخشية التورط في رمالها الحارقة. والسياسة الأميركية الشرق أوسطية لأي رئيس جديد، ديموقراطياً كان أم جمهورياً، تخضع لاعتبارات بعضها مرتبط بحسابات الترشح لفترة رئاسية ثانية، وجزء كبير منها مرتبط بضغط اللوبيات اليهودية ونفوذها. ومع فوز أوباما كان من المتوقع أن تواصل تلك الاعتبارات اشتغالها، لكن كان من الطبيعي أيضاً افتراض بروز تفكير جديد يأخذ بالنظر بعض المكونات المُستجدة التي تجعل تطبيق السياسات السابقة سبباً في تدهور أضافي. وعلى الضد من ذلك الافتراض أعلن أوباما أن أولويته الشرق أوسطية والآسيوية ستكون أفغانستان وإيقاف الانهيار فيها، واتقاء انهيار شبيه في جارتها باكستان، ثم معالجة الوضع في العراق. وبالفعل فقد غرق أوباما وسياسته في وحل ذينك الملفين، وما زال الملف الأفغاني بعيداً عن الحل، أما الملف العراقي فقد أغلقه بطريقة فاشلة، حيث قدّم العراق على طبق من فضة لإيران ونفوذها. وفي نفس الوقت، وكما كان متوقعاً، أجّل بذل أي جهد جدي على جبهة الصراع العربي الإسرائيلي إلى الدورة الثانية لانتخابه، كي يقلل من ضغوط اللوبي الصهيوني. رأينا أوباما في الفترة الأولى يتلقى الصفعة تلو الصفعة من نتنياهو في ملف الاستيطان. وقد بلغ أوباما إهانات مثيرة وعلى العلن، إذ تراجع عن تصريحاته بضرورة وقف الاستيطان قبل استئناف أي مفاوضات، وفرضت إسرائيل رؤيتها على الإدارة الجديدة. لكن حتى في الفترة الثانية واصل أوباما فشله وسياسة تخييب الآمال، حيث توقّع كثيرون أن يتحرر من الضغوط السابقة، ويتصرف كرئيس لأقوى دولة، أو على الأقل يدخل التاريخ وقد أزال أثر الإهانات التي تلقاها من نتنياهو. ربما كانت الفكرة المباشرة التي الحت على أوباما في ولايته الأولى هي عدم المغامرة ببعثرة رأس المال السياسي الذي بدأ به دورته في حل قضية قد لا تُحل وتسبب له خسارات كبيرة. وأن رأس المال السياسي الكبير الذي تربّع عليه منذ البداية، إضافة إلى الشعبية المحلية والعالمية، من الطبيعي أن يمنحه كل ذلك ثقة كبيرة إزاء كيفية ترتيب أولويات سياسته الشرق أوسطية، وذلك في ضوء قلة خبرته في الملفات الدولية. بمعنى آخر، سوف يشعر أوباما بأن «التفويض» العالمي الذي حصل عليه يمكنه من استثمار وقته وجهده في الملفات التي يراها أكثر إلحاحاً، وسوف يستند على تفهم العالم لما يقوم به بسبب ازدحام أجندته والخراب الكبير الذي أورثه إياه بوش. فشلت تلك الفكرة، وتبخّر رأس المال السياسي، ومعه الشعبية، وسيدخل أوباما التاريخ كرئيس باهت يستقبله السود في جنوب أفريقيا بالمظاهرات وإلقاء البيض، عوض أن يروا فيه تجسيداً لبعض أحلامهم.