تفيد بعض التقارير بأن إدارة أوباما تدرس إمكانية سحب سريع للقوات الأميركية في أفغانستان، متبوع بـ«خيار الصفر» ــ والمقصود بذلك الإنهاء التام للوجود العسكري الأميركي، والدولي ربما، في أفغانستان بعد 2014. وهذه فكرة يمكن تفهمها في الحقيقة، ولكن تعوزها الحكمة والحصافة، بل إن مجرد إثارتها كوسيلة تفاوض، يشكل خطأ في مهمتنا المتواصلة في أفغانستان، وهو ما كان يعتبره أوباما مهماً بالنسبة للأمن الأميركي، نظراً لأن أكثر من 60 ألف جندي مازالوا هناك. والواقع أن فكرة «خيار الصفر» تبدو جذابة، ليس فقط لأن الحرب كانت طويلة ومحبطة، ولكن أيضاً لأنه كان من الصعب جداً العمل مع الرئيس الأفغاني. فعلاوة على كل الضجة التي أثيرت سابقا حول الفساد والانتخابات المزورة وغيرها، هناك غضب كرزاي الممتعض من الولايات المتحدة بسبب ما وصفه بأنه مقاربة مزدوجة من جانبها للتفاوض مع طالبان. فكرزاي انتقد واشنطن وقطع المفاوضات بشأن الوجود الأميركي طويل المدى لأنها عندما قامت «طالبان» بفتح مكتب لها في العاصمة القطرية الدوحة الشهر الماضي استشرافا لمفاوضات سلام محتملة، سمَّت نفسها من جديد «حكومة إمارة أفغانستان الإسلامية» وسعت لتقديم المنشأة الجديدة باعتبارها شبه سفارة لحكومة مستعدة للحكم. فقرر كرزاي أن واشنطن متواطئة، لأن إدارة أوباما فشلت في تجنب تلك النتيجة. ويخشى كرزاي أن يقوم المسؤولون الأميركيون بعقد اتفاق ما سراً مع «طالبان» على حسابه من أجل تسريع رحيل القوات الأميركية من أفغانستان. كما يتهم كرزاي الولايات المتحدة بالتحريض على التطرف المتشدد في مناطقه، ويشتبه في أن غرض الولايات المتحدة الحقيقي من وراء التوفر على قواعد في أفغانستان بعد العام المقبل هو شبه إمبريالي، وأن لديها أهدافاً إقليمية أكبر تتجاوز الاحتياجات الفورية لأفغانستان ومحاربة الإرهاب. والواقع أن كل هذه الأفعال وهذه المواقف مؤسفة بالفعل؛ ولكنها لا تستحق تهديد الولايات المتحدة بوقف كل ما استثمرته في أفغانستان. فغضب كرزاي الأخير، وإن كان مفرطا، يمكن تفهمه جزئيا، لأن هذا الأخير كان قد حذر إدارة أوباما سراً وعلانية من أن «طالبان» ستسعى إلى استعمال مكتبها السياسي الجديد في الدوحة كسفارة افتراضية، ثم إن واشنطن لم تفشل في تجنب ذلك التطور فحسب، ولكنها بدت أيضاً متفاجئة عندما حدث ذلك. غير أن النقطة الأكبر هي كالتالي: كرزاي ليس هو أفغانستان، وهو لا يمثل كل الأفغان. صحيح أنه فاز في الانتخابات الرئاسية مرتين، وعلى الولايات المتحدة أن تعترف بأنه حصل على تفويض من شعبه، رغم ما شاب الانتخابات الأخيرة من خروقات، ولكن إحباطات كرزاي من الحرب والمجتمع الدولي، وانتقاداته المتكررة، لا ينبغي خلطها مع أي رغبة من جانب معظم الأفغان في رحيل القوات الأميركية. ذلك أن جل الزعماء السياسيين الأفغان الآخرين الذين أعرفهم جيداً يرغبون في بقاء المجتمع الدولي، ويتذكرون جيداً ما حدث قبل ربع قرن، عندما أنهت الولايات المتحدة فجأة دروها في بلدهم، ثم إن المغادرة بسرعة كبيرة وسحب كل القوات الأميركية والدولية من شأنه أن يزيد من خطر فشل المهمة بالنسبة للمجتمع الدولي. ومن دون ذلك، فإن مغادرة متسرعة و«خيار الصفر» لا ينسجمان مع حقيقة أن قوات الأمن الأفغانية، وإنْ كانت قد تحسنت كثيراً، إلا أنها مازالت في حاجة إلى الدعم الإرشاد، وستستمر حاجتها إليهما حتى بعد نهاية مهمة «الناتو» العام المقبل. وتشمل هذه المساعدة الدعم الجوي، وجوانب تقنية من الاستخبارات، وتكنولوجيا إزالة القنابل، ومدربين للقادة العسكريين في الميدان. لقد أخذت قوات الأمن الأفغانية تثبت قدرتها وكفاءتها على ساحة المعركة، في وقت انخفضت فيه أعداد الجنود الأميركيين بالثلث مقارنة مع أعلى مستوياتها في 2011 وتراجع معدل الإصابات في صفوف الجنود الأميركيين بنسبة كبيرة. والواقع أن إصابات الجيش والشرطة الأفغانيين مرتفعة جدا، وهو ما يؤشر على التزام بالقتال ينبغي أن نقدِّره وندعمه. ولكن القوات الأفغانية ليست قوية بما يكفي للفوز أو حتى ضمان احتواء طالبان بمفردها. وعلاوة على التأثيرات العسكرية، فإذا انسحب المجتمع الدولي كليا، فإن الإصلاحيين الأفغان وكل أولئك المهتمين ببناء أفغانستان جديدة سيتكبدون ضربة نفسية قوية. فأوجه الشبه مع 1989 واضحة لا تخطئها العين؛ وأزمة الثقة التي ستتلو ذلك يمكن أن تكون قاتلة. كما أن ذلك يمكن أن يؤثر على الانتخابات الرئاسية العام المقبل، على اعتبار أن الكثير من السياسيين قد يردون على ذلك عبر البحث عن حماية داخل مجموعاتهم الإثنية الخاصة، في وقت المطلوب فيه هو الوحدة الوطنية. والواقع أن المسؤولين الأميركيين قد ينظرون إلى «خيار الصفر» باعتباره تكتيكا ذكيا للتفاوض، ولكنه في الواقع يعزز سلوك التحوط، ولاسيما في باكستان، التي تسمح لـ«طالبان» بالحفاظ على معاقل هناك. ذلك أن الجيش وأجهزة الاستخبارات الباكستانية تنظر إلى «طالبان» باعتبارها مخططها البديل في حال عادت أفغانستان إلى الحرب الأهلية، أو الفوضى، بعد انسحاب مبكر لـ«الناتو». البعض في باكستان يطعن في هذه المقاربة، ولكن معظم الباكستانيين لا يرون سبباً للتشكيك في جدوى استراتيجيتهم الطويلة طالما الأميركيون مستمرون في الحديث عن «خيار الصفر». وخلاصة القول إن الولايات المتحدة ستستفيد أكثر إذا أعلنت رغبتها في مساعدة أفغانستان، شريطة أن يقوم الأفغان بنصيبهم ويجروا انتخابات جادة العام المقبل وأن يتنحى كرزاي وقتئذ مثلما ينص على ذلك دستور البلاد (ومثلما سبق له أن تعهد بذلك). أما نحن، فعلينا أن نساعد الأفغان في تلك العملية وتجنب الانخراط في شجارات علنية لا تخدم أي أهداف بناءة. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»