اعتبرت التعددية الحزبية، ولفترة طويلة، إحدى الخاصيات الاستثنائية التي تميز بها المغرب مقارنة مع دول الجوار بل وفي كل القارة الأفريقية؛ فرفض الحزب الوحيد، المعبر عنه في جميع الدساتير المغربية منذ أول دستور عرفته البلاد سنة 1962 والمحتفظ به في النص الحالي: «نظام الحزب الوحيد نظام غير مشروع» (الفصل 7 الحالي) لم يكن اختياراً عفوياً لكون معظم أنصار الديمقراطية متفقين على أنه شرط مطلق لنجاح المجال السياسي العام. ففي البلدان التي فقدت هذه العادة، أو التي لم تمارسها قط، يخلق هذا النقص مشكلة إذا أزيلت أسبابه: فالترخيص في بعض البلدان لإنشاء أحزاب سياسية بكل حرية، بعد أن هبت نسائم الانفتاح على المجال السياسي، غالباً ما يؤدي ذلك إلى ظهور غير منظم لبنيات سياسية صغيرة وبالعشرات (كما وقع في تونس بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي) لا تتوفر على برنامج حقيقي محدد وبلا وجود محلي يذكر ما عدا في العاصمة ومكان منشأ الزعيم الرئيسي، وتعمل على شكل منابر تستهدف الترويج لرجل سياسي يربط هويته بها أكثر من ربطها بالمنظمات القادرة على هيكلة الرأي العام. وعلاوة على ذلك، وبالنسبة للأحزاب الكبرى، التي هي عبارة عن هياكل قديمة يرجع بعضها إلى الفترة الاستعمارية وتستمد شرعيتها من النضال من أجل الاستقلال، فإن معظمها لها تاريخ غني يتميز بتطورات مذهبية وبتنافس داخلي، وفي بعض الأحيان بانشقاقات أو بتجمعات، وبتغييرات في التسميات؛ وكل هذه العناصر قد تفاجئ المراقب الأجنبي الذي قد لا يدرك دائماً الرهانات الحقيقية، ولكنها على كل حال، تعكس حقيقة كونها ليست إبداعات حديثة واصطناعية. ومن وجهة نظر أخرى، يرجع دستور 2011 المغربي إلى المبادئ الأساسية لدستور 1962 الذي قدم الأحزاب على أنها تساهم في تنظيم وتمثيل المواطنين (الفصل 3). بعد ذلك، ومن أجل ترسيخ أفضل لشرعية البرلمانيين المنتخبين من طرف النقابات، والجماعات المحلية والغرف المهنية، عملت النصوص الدستورية المغربية لسنوات 1970 و1972 على إقحامهم لمنحهم نفس دور الأحزاب السياسية، الشيء الذي يمكن أن يفسر على أنه إضعاف لهم بإذابتهم في مجموعة من الهيئات التي من المفروض أن تستفيد من شرعية ديمقراطية مماثلة على رغم أن مهمتهم الرئيسية ليست سياسية. وكان ذلك دون شك هو الهدف المبتغى حينذاك. ولكن، ليس هذا ما حصل بالفعل مع الدستور الجديد؛ فالفصول المتفرقة حالياً تحدد وظائف الأحزاب السياسية من جهة، والنقابات والمنظمات المهنية من جهة أخرى (الفصل 8) وذلك من خلال منح الطرف الأول تفوقاً ضمنياً في إطار النقاش السياسي. فمن الواضح أن هناك إرادة من طرف المشرع الدستوري، للنظر في المطالب التي أثارتها الأحزاب السياسية المغربية منذ أكثر من عشر سنوات في المذكرات المتعاقبة التي قدمتها، فالفصل 7 الطويل يعدد المهام الموكولة للأحزاب السياسية من جهة، والقيود المفروضة عليها من جهة أخرى. وبالنسبة للمهام، فهي في نفس الوقت تربوية «التأطير و[...] التكوين السياسي للمواطنات والمواطنين»، ومواطنية «تعزيز انخراطهم [المواطنات والمواطنين] في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام») وأخيراً سياسية بالمعنى الدقيق للكلمة «لأنها تساهم في التعبير عن إرادة الناخبين والمشاركة في ممارسة السلطة». وفيما يتعلق بالقيود المفروضة، مع العلم أن إنشاء الأحزاب وممارسة أنشطتها تتسم بالحرية، فإنه بالإمكان ذكر تلك المتعلقة بالخصوصيات الدينية واللغوية والعرقية والجهوية القابلة لإثارة صراعات جماعية داخل الوطن تعمل على تقويض الوحدة الوطنية. ويوجد مثل هذا الإجراء خاصة في الجانب اللغوي والعرقي منه في معظم دساتير إفريقيا الفرانكوفونية لأنه يمكن تبريره، بشكل أفضل، بكون هذه البلدان المعنية هي غالباً حديثة العهد بالاستقلال، ولها حدود يعتبرها الكثير اصطناعية ولا تأخذ في الحسبان الاختلافات العرقية. فكثيرة هي القوى التي يمكن أن ينتهي بها المطاف إلى الانشقاق. ويظهر من بين الأهداف المحظورة، إنشاء أحزاب لها علاقة بالخصوصيات الدينية لأننا في نهاية المطاف نصل إلى أمور لا تحمد عقباها عندما يزج بالدين في معترك السياسة، وأوضح مثال نستحضره هنا هو ما وقع في الجزائر في نهاية ثمانينيات القرن الماضي وفوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ وما تبع ذلك من توقيف للدستور الجديد وحرب خفية وأخرى معلنة بين الجيش والإسلاميين دامت تقريباً عقداً من الزمن وراح ضحيتها 100 ألف جزائري من أبناء نفس الوطن، مع العلم أن الدستور الذي كان وراء هذا الانفتاح السياسي منع تواجد الأحزاب بناء على خصوصيات دينية أو لغوية فلم يطبق هذا البند! فالدين يستشرف في الإنسان أرقى ما فيه وأسمى ما يمكن أن يصل إليه في علاقته مع خالقه، ومع أخيه الإنسان، والسياسة هي فن إدارة الاختلاف وتسيير الشأن العام، وممارسة السياسة باسم الدين أو مباشرة الدين بأسلوب السياسة يحولها إلى حروب ضروس ويضع الجميع في معمعة الوغى وفي مستنقع الصيغ الهلامية وطنطنة الشعارات الفانية لأن الإنسان في نهاية المطاف يحتاج إلى رغيف خبز، وإلى عمل، وإلى لتر بنزين وإلى ضوء وماء في البيت، وهذا يدخل في إطار تسيير الشأن العام. ومن الصعب جداً، حذف أي حزب سياسي له برنامج محدد وحضور محلي ومنتخبون ومشاركة في ممارسة السلطة على المستوى الوطني أو المحلي بعد أن يكون قد تواجد بالفعل، لأن مثل هذا الإجراء يمكن أن يثير احتجاجات قوية... ولكن نعلم أن الحكمة والتعقل والذكاء والدهاء هي من شروط الفاعلين السياسيين، ومن شروط نجاح السياسة بل والدول بأسرها، والاقتناع بتحويل تلك الأحزاب إلى أحزاب يمينية فيها الخلاص للجميع.