يطرح الحدث المصري الأخير (ثورة شعبية عارمة مدعومة من المؤسسة العسكرية) إشكالاً جوهرياً في التصنيف والتقويم. هل هو انقلاب عسكري ما دام الأمر يتعلق بتنحية رئيس منتخب لم يستكمل دورته القانونية، وما دامت قيادة الجيش، هي التي صممت المسار الانتقالي، وعينت الرئيس المؤقت الذي منحت له كامل السلطات؟ أم أن ما جرى هو استكمال لثورة 25 يناير 2011 وإنقاذ لمبادئها التحررية في مواجهة نظام ضعيف غير قادر على إدارة البلاد، استخدم شرعيته الانتخابية في التمكين لمجموعته السياسية في احتكار مراكز القرار والانفراد بوضع قواعد البناء السياسي والدستوري؟ في الحالتين نحن أمام الإشكال نفسه المتعلق بطبيعة ومصدر الشرعية السياسية في النظام الديمقراطي: هل هو مجرد الشرعية الانتخابية مقياساً إجرائياً عينياً، أم هو التعبير عن الإرادة المشتركة الجماعية والتماهي معها؟ قد يبدو الجواب بديهياً في الفكر السياسي الرائج بالقول إن البديل الوحيد عن الديمقراطية المباشرة، التي لا سبيل لاعتمادها في المجتمعات التعددية الحديثة هو الآلية الانتخابية التعددية، وبالتالي فإن النكوص فيها يفضي مباشرة إلى كبح الطريق أمام التجربة الديمقراطية باسم الوصاية غير المشروعة على خيارات الجماهير التي عبرت عنها في صناديق الاقتراع. بيد أن إشكالية الشرعية أكثر تعقيداً من هذه المقاربة التي تبدو في الظاهر من البديهيات التي لا تقبل جدلاً. تتعين الإشارة هنا إلى أن المقياس الانتخابي التمثيلي لم يكن في بدايات الفكر الديمقراطي الحديث مقبولاً ولا معتبراً في تجسيد فكرة الإرادة العامة المشتركة، وإنما اعتبر مناقضاً لمبدأ حكم الشعب لنفسه واعتمد حلاً مؤقتاً لتأمين السلم الأهلي (تم تصدير الآلية الانتخابية من الحقل المؤسسي الديني ومن الحقل الاقتصادي التجاري). والمشكل الذي يطرحه هذا النموذج، هو تأسسه على مسلمة تماهي الإرادة المشتركة مع الأغلبية الانتخابية، مع ما يعنيه هذا الاعتقاد ضرورة من تماهي الشعب والكتلة الانتخابية واستمرارية الإرادة الشعبية التي جرى التعبير عنها في نظام الحكم طوال مدة توليه لمقاليد الأمر. أي بعبارة أخرى، إن الشرعية الانتخابية الإجرائية تلخص الفعل السياسي في حدث زمني دوري قادر بذاته وفق هذا التصور على تحقيق الإجماع السياسي في مجتمع تعددي حر على أسس عقلانية تداولية مفتوحة. والواقع أن هذا المفهوم الإجرائي للشرعية السياسية الذي اعتمدته المجتمعات الديمقراطية الحديثة بإيقاعات متباينة وبتدرج طويل، واكبه دوماً مسار نظري وقانوني نقدي، أفضى إلى إدخال تحسينات وتصويبات جوهرية عليه، كما أن العديد من المقاربات الفكرية تسعى في الوقت الراهن إلى مراجعته جذرياً، مما لا يمكن إهماله في أي مقاربة عربية جدية حول الانتقال الديمقراطي. كان الفيلسوف والقانوني الألماني «كارل شميت» قد بين أن الليبرالية الحديثة عاجزة عن التفكير في الفعل السياسي الذي تنظر إليه إما من منظور اقتصادي (صراع الإرادات الفردية) أو من المنظور الأخلاقي (الإجماع داخل الأمة ككيان معياري عضوي). وقد اعتبر «شميت» أن اختزال المشروعية في الشرعية الإجرائية يفضي إلى تمويه الفعل السياسي وإعطائه أبعاداً قانونية مؤسسية تفضي في نهاية المطاف إلى إخراج السلطة من يد من تمارس بتفويض منه. وقد حاول الفكر الليبرالي في مدارسه المعاصرة احتواء هذا الإشكال في اتجاهات متعددة: دمج موضوع الشرعية في منظور شامل للعدالة التوزيعية (رولز)، تدعيم الجانب النقدي في الممارسة التداولية للديمقراطية (هابرماس)، توطيد منظور الديمقراطية كمجال لقيم الاعتراف (اكسل هونت )... بل إن الممارسة القانونية والسياسية بلورت في السنوات الأخيرة دوائر جديدة للشرعية مكملة للشرعية الانتخابية، توقف الباحث الفرنسي «بيار روزنفالون» عند ثلاث منها هي: شرعية التجرد (مؤسسات ضبط المنافع العمومية خارج التجاذب السياسي)، شرعية التأمل (أبرزها المجالس والمحاكم الدستورية الضامنة لحسن تأويل وتطبيق القانون)، والإنجاز (التفاعل الحي مع الناس مما يمكن قياسه باستطلاعات الرأي والاستفتاءات العمومية). وكما يبين «روزنفالون»، فإن للشعب معاني ثلاثة مختلفة: الشعب من حيث هو مبدأ، والشعب ككتلة انتخابية، والشعب كديناميكية اجتماعية، ولا يمكن اختزال هذه المعاني المتعددة في البعد الانتخابي الضيق. يتعلق الأمر هنا بنقاش حي في المجتمعات الديمقراطية المستقرة، التي تجذر فيها نظام الفصل بين السلطات، ويؤدي فيها القضاء دوراً رقابياً متزايداً، كما أن حيوية المجتمع المدني فيها قادرة على تأمين النسق السياسي من مخاطر «الديكتاتورية الانتخابية»، التي تحدث عنها «دي تكتوفيل». فكيف بمجتمعات تشهد مصاعب وأزمات التأسيس الانتقالي للديمقراطية؟ العملية الانتخابية في مثل هذه السياقات قد تؤدي إلى تأجيج المأزق السياسي بدل تسويته في حالتين برزتا بوضوح في الساحة المصرية هما: الاستناد للموازين الانتخابية الظرفية في احتكار وضع قواعد النظام السياسي والدستوري الذي يقتضى الحد الأكبر من الإجماع بين القوى السياسية، وإخضاع المجال العمومي للدولة في بنياته الإدارية والبيروقراطية لمعايير الحزبية والزبونية السياسية. لقد قام الرئيس المخلوع مرسي بانقلابات متتالية على القوى السياسية في فرضه لدستور غير توافقي ولمراسيم تشريعية خلافية، كما انقلب على القضاء وسعى لتسييس الإدارة و«أخونة» الدولة بكاملها. لقد أشرنا في بدايات الحراك الثوري العربي إلى مصاعب التأسيس الانتقالي للديمقراطية في الساحات العربية، مبينين أن استنبات الديمقراطية التعددية، لا يمكن أن يكون عملاً ميكانيكياً تلقائياً. والواقع أن السلطات الانتقالية في بلدان «الربيع العربي»، أظهرت قصوراً فادحاً في هندسة البناء السياسي، مما حول اللحظة الانتخابية إلى مجرد حلقة انتقالية أخرى محفوفة بمخاطر جمة من بينها- بطبيعة الأمر- فشل تجارب الحكومات المنتخبة الهشة والعاجزة. وحاصل الأمر أن الديمقراطية بقدر ما هي إطار شرعي لممارسة السلطة هي أيضاً أداة عملية ناجعة للحكم، ولا سبيل للفصل بين شرعية المعيار وشرعية الإنجاز.