أحد زملائي في قسم العلوم السياسية في جامعة الكويت كتب مقالاً في إحدى الصحف المصرية قبل أشهر تنبأ فيه بسيناريو شبيه بما حدث الأسبوع الماضي في مصر، مما يسميه البعض «انقلاباً» على الشرعية، فيما يسميه بعض آخر ثورة ثانية - ثورة الثلاثين من يونيو، أو يعتبره تصحيحاً لمسار الثورة وإنقاذاً لمصر. وزميلنا الذي توقع ما حدث يعزو توقعه للمؤشرات العديدة التي كانت ظاهرة منذ وقت طويل، وقد تنبأ حينها بأن الأوضاع بعد عامين تقريباً من ثورة 25 يناير لن تكون على ما يرام. وأن مما ينتقد به مرسي «شهوة السلطة والانفراد بها»، والإقصاء والعجز عن التوصل لحالة من التوافق مع القوى السياسية المختلفة، وكل هذه مشكلات لعبت دوراً في تكريس إخفاقه، مع الإرث الصعب وعجز القيادة السياسية في مصر التي افتقرت للخبرة في إدارة شؤون الدولة، كون الرئيس المعزول مرسي وجماعته بقوا في المعارضة لعقود طويلة، ولم يتقلدوا أية مناصب تنفيذية في إدارة شوؤن البلاد. وقد بدا ذلك واضحاً في فشل القرارات الداخلية التي فاقمت الأوضاع الاقتصادية، وحتى في الشأن الخارجي كانت قرارات ورهانات مرسي وإدارته متخبطة ومرتجلة أيضاً، ولم تحسب خطواتها وقراراتها بحسابات صحيحة. والحال أن إنذار وقرار المؤسسة العسكرية بعزل مرسي مطلع شهر يوليو الجاري في الذكرى السنوية الأولى لبدء ولايته، وضع حداً لكل ذلك، ولاشك أن أمام مصر الكثير من التحديات التي يجب أن تتعامل معها لتخرج من وضعها المحتقن الحالي. وواضح أن مصر اليوم منقسمة، ونشاهد ذلك يومياً على شاشات الفضائيات الإخبارية التي تقسم شاشاتها بين ميدان التحرير وميدان رابعة العدوية وقصر الاتحادية وغيرها... وهكذا تقف مصر على مفترق طرق... لتقرر ليس فقط مصيرها ولكن مصير ومستقبل الإسلام السياسي فيها وفي ما حولها من جمهوريات «الربيع العربي» التي امتطى صهوة الحراك السياسي فيها، ووصل إلى السلطة في بعضها من خلال استحقاقات انتخابية... ثم حدث ما نشهده الآن من تجاذب، وحتى انقسامات داخل التكتل الذي دفع بإقصاء مرسي، وخاصة بعد صدور الإعلان الدستوري الذي رفضته بعض القوى السياسية مثل جبهة «الإنقاذ» وحزب «النور» السلفي وحزب «مصر القوية».. ورأينا ذلك أيضاً في الارتجال في تعيين رئيس وزراء، حيث طرحت عدة أسماء من بينها محمد البرادعي، وزياد بهاء الدين، ووزير المالية المصري الأسبق سمير رضوان، وحتى الجنزوري، لمنصب رئيس الوزراء المؤقت، قبل أن يستقر الرأي أخيراً على الاقتصادي حازم الببلاوي.. ويبقى التحدي أمام الببلاوي ومصر هو في دمج وعدم إقصاء أي من المكونات السياسية المهمة في الساحة السياسية المصرية.. والدفع باتجاه مصالحة وطنية. ومنذ البداية كان هناك استقطاب سياسي منذ انتخابات الرئاسة في مصر في يونيو 2012 التي وعد «الإخوان» أصلاً بعدم المشاركة فيها، مع أن مرسي لم يكن هو مرشح «الإخوان» الأول، ولكن انتهى به الأمر للفوز برئاسة مصر كأول رئيس مدني، يمثل حزب «الإخوان المسلمين»، وقد كان فوزه بأغلبية ضئيلة، وبنسبة أقل من 52% من الأصوات، أي 13,2 مليون صوت، مقابل منافسه الرئيسي في الجولة الثانية أحمد شفيق الذي حصل على 12,3 مليون صوت. ومنذ فوز الرئيس المعزول مرسي برزت تساؤلات منها: أولاً، هل سينجح رئيس بقي حزبه معارضاً وممنوعاً بشكل رسمي على الدوام، وليست لديه خبرة في الحكم، في أن يتعامل مع مشاكل مصر المتعددة والمثقلة بتركة صعبة بعد ثلاثة عقود من حكم الرئيس المخلوع. ثانياً، بسبب الخلفية الحزبية لمرسي وانتمائه لحزب «الإخوان المسلمين»، فهل يمكن أن ينجح كرئيس توافقي يجمع القوى السياسية المختلفة من دينية وليبرالية ومدنية؟ ثالثاً، ماذا عن علاقة مرسي وحزبه مع القوات المسلحة النافذة تحت مظلة الجمهورية؟ واضح أن الرئيس المعزول مرسي وحزبه وجماعته لم ينجحوا في التحديات الثلاثة: الإدارة، والتوافق مع القوى السياسية، والعلاقة مع العسكر.. وقد عزز ذلك تراجع الأوضاع الأمنية والخدمية والاقتصادية. ووجد المصريون أنفسهم منقسمين سياسياً وبشكل حاد. وكان ذلك واضحاً من نسبة الأغلبية الضئيلة التي فاز بها مرسي، وتعمق وزاد التصدع في البلاد في العام الأول من حكم مرسي، ما فاقم الأوضاع وزاد من حجم الانقسام، إلى درجة أن موقع «بلومبرغ» قدم دراسة عن أخطاء مرسي العشرة في السلطة، ومنها: ما أسمته عدم الكفاءة incompetent وحتى مرسي نفسه اعترف بأنه ارتكب العديد من الأخطاء في سنته الأولى في السلطة. وعلى رأس تلك الأخطاء وأسباب الفشل، خاصة بعد الفوز بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية، أن مرسي لم يُشكل حكومة ائتلافية شاملة بمختلف ألوان طيف القوى السياسية المصرية. وكذلك فشل الدستور الجديد الذي وضعه مرسي، وحظي بتأييد 64% من الناخبين المصريين، في وضع حد للقوة المؤثرة للمؤسسة العسكرية النافذة في مصر. وتكرر الفشل ذاته في إصلاح مؤسسة قوات الأمن على الرغم من السمعة السيئة التي تعرف بها. وزاد من فشل مرسي أيضاً تفشي الجرائم، والعجز عن توفير الأمن وحماية الشعب المصري. وفاقم مأزق إدارة مرسي للأزمة، وتردي الأوضاع المعيشية، الفشل في تأمين القروض وخاصة من صندوق النقد الدولي، ما أدى لارتفاع التضخم والأسعار وضرب المواطن في المواد الأساسية وعلى رأسها الخبز والدجاج والطماطم وحتى السجائر. وزاد معدل ساعات انقطاع التيار الكهربائي، وفقد البنزين والسولار، واصطف المصريون للحصول عليهما في طوابير طويلة بشكل غير مسبوق. وكل ذلك فجر الغضب الشعبي. وزاد الفرز الطائفي والمذهبي ضد الأقباط في إدارة مرسي، وسجلت سابقة في مصر هي سحل رجل الدين الشيعي حسن شحاتة قبل أيام من عزل مرسي. كما أن تشرذم المعارضة المصرية وعجزها عن تقديم بدائل مقنعة تحظى بقواعد شعبية زاد الحزب الحاكم تمسكاً بمواقفه بسبب تقليله من تأثير المعارضة. وكل تلك التجاوزات والأخطاء لاشك أنها قد فاقمت وساهمت في رفع منسوب الاحتقان والغضب، حتى تفجر بمظاهرات ما قبل 30 يونيو وبعده التي أدت إلى تدخل المؤسسة العسكرية وعزل مرسي. إن مساعدة دول مجلس التعاون الخليجي إبان حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بعد تنحي مبارك، وفي حكم الرئيس المعزول مرسي وبعد عزله، وصلت بمجملها إلى أكثر من 20 مليار دولار، وخاصة في الأسبوع الماضي عندما قدمت كل من السعودية والإمارات والكويت حزماً مالية من هبات لا ترد، وودائع مصرفية في البنك المركزي، ومشتقات نفط وغاز، وهذا يعبر عن اهتمام وحرص دول المجلس على دعم مصر في ظروفها الصعبة، لتخرج من مأزق التعثر السياسي والاقتصادي. وفي المجمل، فإن أهمية وتأثير ما يجري اليوم في مصر، وبسبب كونها المختبر السياسي والاجتماعي للعالم العربي، تأتي من أن المخاوف ليست فقط على استقرارها ومستقبلها وحدها، ولكن على مصير ومستقبل بقية الأنظمة المنتخبة في حقبة «الربيع العربي».. والأهم من هذا كله: هل يمكن نعي الإسلام السياسي من الآن ليس فقط في مصر، ولكن في المنطقة بأسرها؟! لهذا مقال آخر.