دعوني أقول لكم شيئاً بقدر كاف من الوضوح: ينبغي ألا يكون هناك أحد يسعده ما يجري في شوارع مصر من انقسام، ونزيف دماء في الوقت الراهن، وبالذات مع تصاعد المواجهات في الشوارع سواء بين المعارضين لمرسي والمؤيدين له، أو حتى بين هؤلاء وبين الجيش كما حدث أمام دار الحرس الجمهوري. ولكن دعوني أيضاً أقول لكم شيئاً آخر بنفس القدر من الوضوح: هناك رجل واحد يتحمل المسؤولية الكاملة عن أزمة القيادة في ذلك البلد وهو: محمد مرسي. ولكن بعد التحفظ على مرسي من قبل الجيش عقب عزله من السلطة في مصر في الثالث من يوليو الجاري، وملاحقة قيادات جماعة «الإخوان المسلمين»، واحتمال رفع دعاوى قضائية ضد بعضهم بما في ذلك مرسي نفسه، قد يستغل الرئيس المعزول، وجماعة «الإخوان» التي ينتمي إليها، تلك الإجراءات لخلق خطاب مظلومية جديد يحاولون به مواجهة النكسة التي حلت بهم. ولكن دعونا لا ننسى أيضاً كيف وصلنا إلى هذه النقطة القائمة: عشية 30 يونيو، وبسبب الحشد الجماهيري غير المسبوق والاحتجاجات المنتشرة على امتداد البلاد، فقد مرسي شرعيته، وبات مجروحاً سياسياً، وتعرضت قدرته على حكم مصر إلى ضرر غير قابل للإصلاح. وبالتزامن مع الحملة الشعبية العارمة من القاعدة إلى القمة، التي نجحت في إخراج ملايين المواطنين المصريين إلى الشوارع، تخلت قطاعات حيوية من بيروقراطية الدولة المصرية علناً عن الرئيس المعزول تاركة إياه، بقبضة وهمية، واسمية، على السلطة في مواجهة بلد مستقطب على نحو خطر، وممزق النسيج المجتمعي. وفي تلك اللحظة، لم يكن أمام مصر سوى خيارات قليلة للغاية لتجنب الاحتمال الكئيب للصراع الأهلي. وكل تلك الخيارات كانت في يد شخص واحد هو مرسي. وعلى رغم أنه قد ورث مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية عويصة، إلا أن مرسي عندما صعد للسلطة في 30 يونيو 2012 كانت لديه خيارات عديدة، ولكنه فضل اختيار المكاسب الطائفية، والسياسات الصفرية والديماغوجية الشعبوية. وفي نظام، من دون منظومة قيود وتوازنات صالحة للتطبيق، فإن تلك الخيارات لم تؤد سوى إلى توليد مستويات متزايدة من الاستقطاب، ما أدى في نهاية المطاف إلى تدمير الثقة، وشل الدولة. وكانت القرارات التي اتخذها مرسي انطلاقاً من تلك الخيارات تعكس في حقيقة الأمر كراهيته للانتقاد، وتحقيره هو وجماعة «الإخوان» لدور المعارضة في الحياة السياسية المصرية. لقد فشل مرسي في إدراك أن الأصوات التي حصل عليها وضمنت له الفوز في الانتخابات لم تكن تعني منحه تفويضاً غير محدود، وبدلاً من ذلك أدلى بتصريحات، وألقى خطابين كشفا عن قدر كبير من العناد، والعزلة، وهي أعراض بدت جميعاً واضحة تمام الوضوح في حين كانت مصر كلها تسير نحو 30 يونيو -وإن كانت قد تجسدت أيضاً في مناحٍ عديدة خلال فترة حكم «الإخوان» القصيرة. وفي حين كانت حملة «تمرد» عملًا من أعمال الإبداع والتنظيم المتقن الذي لا غبار عليه، إلا أن نجاحها اعتمد بالدرجة الأولى على كم الغضب والإحباط الذي ظل يتراكم طيلة هذه الفترة، لدى كافة قطاعات المجتمع المصري تجاه إدارة مرسي التي كانت تزداد بشكل مطرد سلطوية، واحتكاراً، وعدم كفاءة. ونظراً لعدم وجود آلية واضحة لمحاكمة الرئيس على ما ارتكبه من أخطاء، وما قدمه من أداء سيئ فإنه لم يكن أمام الملايين سوى النزول إلى الشوارع منادين برحيله. وكان البعض ممن خرجوا يتمنون في قرارة أنفسهم أن يجبره الضغط الشعبي على الاستقالة، في حين كان بعض آخر يدفع باتجاه التدخل العسكري. ومع هذا العرض المذهل لـ«عدم الثقة» والموقف الأمني الهش في البلاد في 30 يونيو، كان احتمال وقوع أحداث عنف مرتفعاً. ولكن حتى في هذا المفصل المحوري، كانت لا تزال لدى مرسي خيارات... كان بمقدوره هو وحده تقليل كم الخطابية، وتجنب نزيف الدماء، الذي كان محتماً حدوثه. ولكن لا مبالاته الرعناء أكدت أن الحلول التوفيقية ليست وشيكة، وهو ما وضع مصر وجهاً لوجه مع الخيار الحتمي: عزل مرسي على أيدي الجيش مع ما قد يحمله ذلك من احتمالات اندلاع حرب شوارع حامية الوطيس. كان بمقدور مرسي أن يخرج بطريقة مشرفة لو كان قد اعترف بالحقيقة وهي أنه رئيس ليس لديه سوى قبضة هشة على السلطة، ويفتقر للقدرة على الحكم بكفاءة -حتى عندما كان في ذروة شعبيته- وبات في وضع لا يمكنه من أداء الدور المنوط به. وكان التفاوض حول خروج آمن سيضمن لـ«الإخوان المسلمين» الاحتفاظ بالمكاسب السياسية التي حققوها، ويضمن مشاركتهم في رسم معالم الفترة الانتقالية المؤدية لانتخابات برلمانية ورئاسية. ولكن اتخاذ مرسي قراراً بذلك كان سيتطلب منه تقييماً منصفاً لكافة الأخطاء التي ارتكبها، وتقديراً موضوعياً للديناميات الحالية في البلاد. وبقدر صعوبة تلك الخطوات إلا أنها كانت طريق الخروج الوحيد أمام مصر التي لم تجد أمامها سوء الاختيار بين أخف الضررين. وما يمكن قوله في نهاية المطاف هو أنه لن يتاح لنظام سياسي فاعل، ناهيك عن انتقال ديمقراطي، أن يبرز في مصر من دون مشاركة حرة، وعادلة، وكاملة، من جانب كافة القوى السياسية -بما فيها «الإخوان»- من دون إقصاء لأحد. مايكل وحيد حنا زميل رئيسي في مؤسسة «سينشري فاونديشين» نيويورك ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»