ما تذكّر كثيرون الصدامات الأُخرى بين «الإخوان» والضباط. فقد كان هم الإعلاميين المصريين الداعمين لحركة «تمرد» و«جبهة الإنقاذ»، إثبات خروج «الإخوان» على الديمقراطية، وإرادتهم أخونة الدولة، وتفريطهم بالمصالح الوطنية والقومية. أمّا الواقُع فهو أن هذه السقطة أو هذا الاصطدام جرى من قبل في خطوطه الكبرى ثلاث مرات، وهذه هي المرة الرابعة. جرى المرة الأولى عشية انقلاب عام 1952 وفي أعقابه. والأقاويل كثيرة في ذلك، ومنها أن جمال عبد الناصر قائد الانقلاب، كان عضواً في «الإخوان المسلمين» أو كان حتى من أعضاء التنظيم الخاص! وما كان قريباً منهم وحده من بين «الضباط الأحرار»، لذلك أعلموا «الإخوان» بموعد الثورة، وكانوا راغبين في إشراكهم بعدها، باعتبارهم قوة جماهيرية منظمة، وأنهم خصومٌ ( مثل الضباط) للأحزاب الشعبوية المصرية مثل حزب «الوفد». وبقدر غموض علائق الضباط بهم قبل الانقلاب، هناك غموض كبير في أسباب الخلاف والصراع بعدها (1952-1954). فقد اتهم الضباط «الإخوان» بالتحالف مع محمد نجيب والشيوعيين ضدهم، والتواصُل مع الإنجليز من وراء ظهرهم، وصولاً إلى محاولة اغتيال عبدالناصر. وكتب «الإخوان» في منافيهم كثيراً عن وقائع السنتين العاصفتين، وأن عبدالناصر كرههم بعد الانقلاب، لأنهم ما كانوا يريدون تعطيل الديمقراطية والحياة الحزبية، ولأنهم طالبوا بتغييرات في الشؤون التربوية. وعلى أي حال، فإن الضباط صفَّوا سائر القوى، ثم انفردوا بـ«الإخوان» فأدخلوا آلافاً منهم السجون خلال أسبوع، وأجروا لهم محاكمات أمام محكمة عسكرية، أصدرت ستة أحكام بالإعدام، ومئات الأحكام بالسجن. ولذا فقد بدا الصراع بين الطرفين في النهاية صراعاً على السلطة. ومنذ أيام محمد علي، في مطلع القرن التاسع عشر، يصارع المصريون معاً ضد الاستعمار، ثم تختلف النُخَب المدنيةُ مع النُخَب العسكرية، ويتقدم العسكريون الصفوف بدعم من العامة، ويذهب المدنيون في العادة إلى السجون، ثم يجري استيعابهم فيما بعد، فتنتهي عصبتهم أو ينتهي حزبهم، ويدخلون في العهد الجديد. وفي هذا الصدد فإن «الإخوان» كانوا استثناءً، وقد ترتبت على هذا الاستثناء آثار وتداعيات هائلة في تاريخ مصر الحديث. وعندما حصلت السقطة الثانية أو الصدام الثاني بين «الإخوان» وعبدالناصر عام 1965، تبين أن التنظيم المضروب عاد إلى الحياة، وأنه صارت لـ«لإخوان» تنظيمات في سائر أنحاء العالم العربي تريد أَسلمة الحياة والدولة. وعندما توفي عبدالناصر عام 1970، ووقف الناصريون ضدَّ خليفته السادات، أخطأ الرجل فغمس يده في مياه البئر المحرَّمة. فالذين أخرجهم السادات من السجون لمصارعة شباب القومية واليسار وشيوخهم في الجامعات والنقابات، ما كانوا أولئك العجائز والشيوخ من جيل «البنّا» فقط؛ بل كانت بينهم أيضاً أجيالٌ شابةٌ من الجهاديين الذين تربَّوا على كتب «قطب»، والذين كانوا مستعدين لممارسة العنف من أجل إزالة المنكر والجاهلية والطاغوت. وكانت عبقرية القيادة الإخوانية منذ مطالع السبعينيات، الاحتفاظ بشعرة معاوية مع تلك الأجيال، دون أن يستطيع أحد طوال أكثر من ثلاثين عاماً إثبات دعوتها للعنف أو ممارستها له. فمنذ عام 1978 بدأ السادات يراجع الموقف نتيجة تكاثُر جماعات العنف باسم الإسلام. وما ثبت أن لأحد من هؤلاء العنيفين علاقة تنظيمية بـ«الإخوان»، لكنهم يحملون المعالم الكبرى للفكر نفسه، ويتميزون عن «الإخوان» بالدعوة للعنف علناً تحت اسم الجهاد. وبالفعل فقد قامت مجموعةٌ من هؤلاء بقتل السادات عام 1981، وتلت ذلك موجة اعتقالات وتصفيات استمرت عامين وأكثر. وقد تكوّن انطباع لدى الأجهزة الأمنية أن لـ«لإخوان» ضلعاً فيما جرى، بيد أن أحداً ما استطاع الإتيان بأدلة أو شهادات. اصطدم «الإخوان» بالضباط إذن بعد انقلاب عام 1952 اصطدامات مدوية ثلاث مرات (1954، 1965، 1981). وفيما بين التاريخين وبعدهما حتى عام 2011، كانت هناك عشرات الصدامات الصغيرة والمتفرقة. بيد أن عهد «مبارك» كان عهداً ذهبياً بالنسبة لهم حتى بالمقارنة مع الانفراج أيام السادات. فما انقطعت علاقات النظام بهم، ولا انقطع الحوار مع الأمن والمخابرات، رغم استمرار الملاحقات والاعتقالات والمحاكمات. وفي النهاية صار لهم نصيب في السوق وفي أُعطيات الدولة، وظهرت وجوه من التعاوُن، ما تراجعت إلا عندما تقدّم مبارك في السن، وسيطرت نخبة رجال الأعمال المحيطة بجمال مبارك، وهي النخبة الهائلة الشهية، والضائقة ذرعاً بكل مظهر من مظاهر التمايُز والمعارضة والمشاركة. بيد أن تزوير الانتخابات، والملاحقات المستمرة، ما انفردا بجعل «الإخوان» الطرف الرئيسي في المعارضة، بل مما بعث القوة في أوصالهم: نجاحهم في إحداث تحول في الفكر الإسلامي المعاصر، يعتبر الدولة أداةً إجباريةً في تطبيق الدين أو الشريعة أو استعادة الخلافة، والتغلغل بالقوة التنظيمية الصبورة في أحشاء المتعلمين من أبناء الطبقة الوسطى الصغيرة والمتوسطة. وقد انصرف مثقفو هذه الطبقة في الثمانينيات والتسعينيات للدعاية لـ«لإخوان» باعتبارهم التيار الوسطي، ودعاة النظافة والاستقرار. وتعود وسطيتهم في نظر هؤلاء لعدم لجوئهم للعنف، مثل الجهاديين؛ لكنهم لم ينتبهوا أو لم يريدوا الانتباه إلى أن النظرية واحدة، ما دام المراد الوصول إلى السلطة لتطبيق الشريعة، وهي فكرة توهِمُ أن ديننا غير كامل، وأننا محتاجون للنظام السياسي من أجل إكماله! وهكذا، وعندما قام تمرد الشباب على مبارك، بدا أنه ليس في الميدان غير قوتين منظمتين: الجيش (الذي نحَّى مبارك)، و«الإخوان» (الذين انصرفوا لإقناع الجيش بأحقيتهم بالسلطة عبر الاستفتاءات والانتخابات). ولأن الأميركيين (بخلاف العرب) ما كانوا يريدون بقاء الجيش في السلطة أو المجيء برئيس عسكري بعد مبارك؛ فقد صار لِزاماً أن يصل «الإخوان» إلى السلطة. خصومهم يقولون إنهم أخذوا أكثر بكثير مما وعدوا وهم يقولون: بل إن جماهير المؤمنين أعطَونا أكثر مما أمَّلنا! وعلى أي حال؛ فإن «الإخوان» الذين تسلّموا سائر السلطات، سلكوا مسلك الضباط في الخمسينيات، فأرادوا أخذ كل شيء كما فعل الضباط من قبل. لكن الزمان غير الزمان، والدولة غير الدولة، وكما لـ«الإخوان» شبابهم المناضل، فللمجتمعات الجديدة شبابها المناضل أيضاً. فحتى الاستيلاء على أجهزة الدولة، لا يوصل إلى حالة «التمكين» التي يريدها «الإخوان»، فكيف إذا اصطدموا بسائر تلك الأجهزة، وعلى رأسها الجيش والأمن؟! كان تاريخ مصر في الستين عاماً الماضية، مغالبةً بين المتحدثين باسم الدولة المدنية والحداثة، والمتحدثين باسم الإسلام. ومن الطريف أن يكون العسكر هم من يمثلون الدولة وحداثتها، بينما يكون «الإخوان»، وهم جميعاً من كبار المتخصصين في الحقول العلمية البحتة والتطبيقية، أنصار الدين المؤوَّل والدولة الثيوقراطية. هل تنتهي المغالبة عند هذا الحد، باعتبار أن هناك طرفاً ثالثاً هو الشباب المصري، الذي قد يكون بديلا عن الإثنين أو يتجاوزهما؟ يبدو لي أن هذا غير مرجّح. فلننتظر التطورات.