قبل أكثر من سنة، كنت مع زميل يعمل عميداً في إحدى الكليات الجامعية، نناقش كيفية قبول الجيش المصري بوصول أول رئيس للجمهورية من رحم حركة «الإخوان المسلمين». وذكر لي يومها ذلك الزميل أنّ الجيش المصري لم يحزم حقائبه بعد من المسرح السياسي المصري الذي ظلّ يشغره لأكثر من ستين عاماً، وأنّ كل ما حدث هو أنّ قيادة الجيش ارتأت أن تعطي الفرصة لحركة «الإخوان المسلمين»، وقادتها لأن يثبتوا فشلهم في إدارة الشؤون الاقتصادية والسياسية للبلاد، وخلال سنة أو سنتين سيقوم المواطنون باحتجاجات ضد هذا الفشل، وستسقط حكومة «الإخوان». وحينما حصل التغيير السياسي قبل أسبوع، كان أول شيء قمت به هو الاتصال بهذا الصديق كي أهنئه على نظرته الثاقبة للأمور، والتي أثبتت صوابها قبل مرور العامين المرتقبين. غير أنّ أي محلل موضوعي يرى أيضاً أنّ القيادة السياسية لحزب الحرية والعدالة قد زجّت بمرشح غير قادر على إدارة الشؤون السياسية للبلاد، مثل الرئيس المعزول محمد مرسي. وأنه لم يستطع رؤية مصير الأمور عن بُعد، بل ظلّ متشبثاً بشرعية قانونية، ولم يتمكّن من فهم حقيقة الخريطة السياسية لمصر. فبإقصائه لقادة الجيش مثل طنطاوي وعنان، وتحميل الجيش مسؤولية أحداث سيناء في العام الماضي، فقد حمل ذلك الجيش على اتخاذ موقف منه مناوئ على المدى الطويل. كما أنه لم يدرك موقف القوى الثورية الأخرى في مصر، ولم يشركها في الحكم، وكان موقفه إيديولوجياً حيث نظر إلى أي مكسب يحصل عليه حزبه على أنه بمثابة خسارة للآخرين. واللعبة السياسية في أي بلد، ناهيك عن مصر، هي لعبة الأخذ والعطاء واقتسام الغنائم. غير أنّ النظرة الإيديولوجية لجماعة «الإخوان» أعمت أعينهم عن حقيقة السياسة التي تعتمد بشكلٍ أساسي على التفاوض. وربما أنّ علّة «الإخوان المسلمين»، وأغلب الحركات الإسلامية في العالم العربي، هي أنّ معظم قادتها وسياسييها هم من خريجي المجالات العلمية البحتة، كالكيمياء والفيزياء والطب وغيرها. وهم بتكوينهم العلمي مجبولون على النظرة الأحادية للأمور، فالشأن السياسي لم يكن يوماً ذا طابعٍ أحادي، بل كان ولا يزال قابلاً للتجزئة وجمع الأشياء وأنصافها. واقتراح حلول معقدة غير مريحة، ولكنها مقبولة للاعبين والمتحاورين. وهم لا يثقون بأساتذة السياسة، ويرون أنها علم هامشي، ولذلك فهم لا يدركون بشكلٍ عميق القوة الناعمة وتضاريسها وتعرجاتها. والشيء المثير، أنّ الحزب الإسلامي الآخر، حزب النور، الذي كان شريكاً مصغّراً في حكومة «الإخوان»، قد مارس السياسة بشكلٍ يختلف عن ممارسة «الإخوان». فحزب النور الذي بدأ الحياة السياسية والمشاركة في الانتخابات قبل حوالي عامين بشكلٍ بدائي، وظنّ كثيرون أنه يمثل قمة السذاجة في التعامل السياسي، أثبت خلال سنتين من نشاطه السياسي أنه قادر على التعلّم. وقد أتاحت له فرصة المشاركة الهامشية في السلطة، أن تكون له القدرة على استيعاب دروس من الحياة السياسية الديمقراطية، لم يكن الحزب في الأصل يؤمن بها. وعلى سبيل المثال، فقد طلب الحزب من حكومة مرسي التريّث في اتخاذ أي قرار سياسي حتى تنتهي لجنة تقصي الحقائق الدولية التي أُرسلت إلى إثيوبيا لدراسة مشروع تحويل مياه النيل في السد الذي تبنيه الحكومة الأثيوبية. كما أعلن أحمد خليل، نائب رئيس الحزب، نيّة الحزب إرسال لجنة شعبية دبلوماسية للتحاور مع الحكومة الأثيوبية. كما تحفظ على تعديل قانون السلطة القضائية الذي كان حزب الحرية والعدالة يريد تمريره في البرلمان من دون استشارة السلطات القضائية في مصر. ونادى الحزب بمفهوم «المواءمة السياسية» لإيجاد حلول وسطى بين المواقف المتشددة لحزب الحرية والعدالة، ومواقف المعارضة المصرية. وحينما حزم الجيش أمره وأرسل إنذاره إلى الرئيس السابق محمد مرسي، وقف حزب النور مع مؤسسة الأزهر والمؤسسات المدنية الأخرى إلى جانب الجيش. وقد أتاح له هذا الموقف أن يتحفظ على أسماء المرشحين لمنصب الوزارة، ويمكن بذلك أن يقتطع جزءاً من الكعكة السياسية، وأن يعيّن بعضاً من زعمائه كوزراء في وزارة حازم الببلاوي القادمة. وينتقد البعض موقف الحزب من التغيير السياسي، ويقولون إنه يعطي شرعية دينية لـ«انقلاب عسكري» بحت! غير أنّ مشاركة حزب النور في دعم المعارضة ستعطيه فرصة كبيرة في إعادة تشكيل النظام السياسي المصري، الذي سيكون من اليوم فصاعداً بمثابة مساحة مفتوحة للتنافس بين أحزاب وحركات سياسية متعددة. غير أنّ الجيش والمؤسسة العسكرية ستبقى من اليوم فصاعداً رقيباً وحسيباً على أداء السياسيين، وستكرر التجربة التركية، وهذه المرّة ليس كما كان يقال بتقليد حزب الحرية والعدالة المصري لتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، ولكن بإعادة نفس الدور الذي كان يلعبه الجيش التركي في الحياة السياسية التركية طوال ثمانين عاماً مضت، عبر مجلس الأمن القومي، أو أي مجالس ومؤسسات مراقبة مماثلة. وإذا ما قدِّر لحزب النور أن يزيد من نفوذه في مصر «بتواؤمه» مع متطلبات العهد الجديد، فإن ذلك يتطلب منه كذلك أن يقترب بشكلٍ أكبر من مؤسسة الأزهر، وهي المؤسسة الإسلامية الكبرى في مصر، التي ظلّت علاقة حركة «الإخوان المسلمين» بها متوترة طوال الستين عاماً الماضية. وإذا ما أثبت الحزب أنه عملي وقادر على الحراك السياسي، فقد يفتح له ذلك باباً من المناورة والتعاطي مع المتغيرات السياسية. غير أنّ الأحزاب الدينية بطبيعتها ذات طابع هيكلي هشّ، وبالتالي فلن نستغرب أن ينفصل جزء من حزب النور عن قادته، وأن يشكّلوا حزباً جديداً آخر أقرب إلى المواقف المتشددة الحالية لحزب الحرية والعدالة. وإذا ما قدِّر لحزب الحرية والعدالة أن يعود إلى الحياة السياسية مجدداً، بشكل مشارك وليس مهيمناً عليها، فقد يدخل الحزب خلال عام من الآن في مرحلة مراجعة ونقد ذاتي عميق، وقد يأتي بزعماء جدد أقل التزاماً بالمبادئ الإيديولوجية للحزب، وأصغر سناً من القيادة السياسية الحالية. والمشهد المصري قابل للتحوّل والتغيير.