من جديد يشدُّ النوع المصري من الحياة السياسية الثورية العربية انتباهَ العالم ويتمخض عن نتيجة مثيرة. فبعد عام بالضبط على مجيء نظام «الإخوان المسلمين» ورئيسه المعزول محمد مرسي، خرج الناس إلى الشوارع للمطالبة باستقالته، حيث هتف الملايين من المصريين بأنهم قد ملوا وسئموا من نظام مرسي وضاقوا ذرعاً بحكم «الإخوان المسلمين» وافتقارهم للكفاءة والتسامح، ونزعتهم السلطوية المتزايدة. وفي وقت كان فيه حجم الحشود يتزايد، منح قادة البلاد العسكريون مرسي مهلة لتسوية خلافاته مع منتقديه. ولكنه لم يفعل. وفي غضون يومين، أعلن قائد القوات المسلحة أن مرسي لم يعد رئيساً للبلاد. وهذا التحول المذهل في الأحداث ينطوي على أخبار سارة وأخبار أخرى تستحق التأمل. ولكن قبل أن ننظر إلى العناصر المتضاربة، من الضروري أن نتذكر إلى أي مدى يعتبر كل هذا مهماً للغاية. فمصر ليست أكبر بلد في العالم العربي من حيث السكان فحسب، وإنما تعتبر أيضاً بلداً قائداً ورائداً لبلدان المنطقة، وذلك لأن ما يحدث في مصر يتردد صداه عبر الشرق الأوسط كله. أما الخبر السار، فهو أن أغلبية الشعب المصري ترفض بصراحة حكم «الإخوان المسلمين». فعندما أخذ «الإخوان» يفوزون في الانتخابات عبر المنطقة عقب إسقاط الحكام المستبدين، وُصفت الحركة حينها من قبل البعض بأنها معتدلة وبراجماتية. والأكيد أنها كانت لديها مقاربة أو خطة للوصول إلى السلطة، وتمكنت من حشد الدعم لتسويق نفسها انتخابياً. غير أن «الإخوان المسلمين» بعدما وصلوا إلى سدة الحكم لم يغيروا أبداً أهدافهم. فقد كشفوا عن قدر كبير من الرغبة في إدخال نظام أصولي يهيمن على حياة الفرد والدولة والمجتمع من خلال تأويلهم للشريعة الإسلامية. غير أنها رؤية كانت ستصبح كارثية بالنسبة للنساء، ولغير المسلمين، وللمسلمين المختلفين مذهبياً، بل ولأي شخص آخر لا يرغب في أن تملي عليه السلطات الدينية كل جوانب حياته، ويروم التمتع بحرياته الشخصية. وعلاوة على ذلك، فإن السنة التي أمضاها مرسي في السلطة كانت كارثية بالنسبة للمسيحيين الأقباط خاصة وبالنسبة للمسلمين الشيعة. كما أنها جلبت مؤشرات تحذير للنساء ولحرية الصحافة وللمجتمع المدني. إن الأغلبية الساحقة من المصريين مسلمون، وهذا معروف لدى الجميع. وهم لا يرفضون دينهم، وإنما يرفضون فكر «الإخوان المسلمين»، بخصوص الدور الذي ينبغي أن يلعبه الدين في الحكومة وفي السياسة. وهذا تطور مثير في الواقع. ومع أن مرسي كان رئيساً منتخباً، إلا أنه انتُخب بهامش صغير جداً عن منافسه في الدور الأخير من الانتخابات الرئاسية العام الماضي. فخلال الجولة الأولى من الانتخابات فاز بعدد ملحوظ من الأصوات؛ ولكن معظم الناخبين صوتوا مع ذلك لمرشحين آخرين. وفي الجولة الثانية، كان الاختيار هو بين مرشح «الإخوان المسلمين» أو مرشح منافس سعى البعض جاهداً لتصويره على أنه مرتبط بالنظام القديم. وهكذا، تمكن مرسي من انتزاع الفوز بهامش بسيط جداً. ومع هذا الفوز الضيق والتفويض الملتبس، راح مرسي يضع أيادي «الإخوان المسلمين» على دواليب السلطة. وفوق هذا أننا لا يمكننا أن نعرف أبداً ما كان سيحدث لو أن الجيش لم يتدخل؛ ليس ما كان سيحدث مع الاحتجاجات فحسب، ولكن ما يفترض أن يحدث مع مر السنين أيضاً. فهل كان «الإخوان» سيجدون طريقة لمنع إجراء انتخابات أخرى؟ حالياً، يدور نقاش محتدم حول الكيفية التي يمكن بها تسمية ما حدث في مصر، وما إن كان يرقى إلى «انقلاب»، كما يردد أنصار الرئيس المعزول. والواقع أنه لا يمكننا أن نتجاهل أن الخطوة التي اتخذها الجيش كانت تحظى بموافقة ودعم قويين من قبل قطاعات واسعة من الشعب. كما أن إعلان الجيش حضره وأشاد به زعماء مسلمون ومسيحيون وعلمانيون كبار في البلاد. ومما لاشك فيه أن ثمة الكثير ليناقشه المؤرخون بشأن ما حدث مؤخراً في مصر؛ ولكن ما يهم هو ما سيحدث لاحقاً. ووفق أحسن السيناريوهات، ستنظم السلطات انتخابات جديدة وعاجلة. وسيقدم «الإخوان المسلمون» مرشحاً لهم. وستتمكن المجموعات العلمانية أخيراً من تحقيق فوز في الانتخابات. وستشكل حكومة جديدة ديمقراطية تؤمن بالمساواة واستيعاب الجميع. ثم تنكبُّ على كتابة دستور جديد لمصر يمكن لكل البلاد أن تدعمه، لأنه يضمن المساواة للنساء والأقليات وحكم القانون - وآلية دستورية لعزل الرئيس، في حال أصبح ذلك ضرورياً. أما في أسوأ السيناريوهات، فستزداد البلاد انقساماً وعنفاً، وسيستمر الانهيار الاقتصادي. كما سينشط «الإخوان المسلمون» في السر وتتمزق البلاد. ولكن هذا احتمال من الصعب التفكير فيه، ولكن الأمثلة على مدى السوء الذي يمكن أن تصبح عليه الأمور واضح في أجزاء أخرى من العالم العربي. وخلاصة القول إن ملامح الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين تُرسم في مصر المضطربة حالياً. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة إم سي تي إنترناشيونال