فيما تنزلق مصر على نحو متسارع نحو الفوضى والمواجهات الدامية، يصبح الأمر بالغ الصعوبة والتعقيد على إدارة أوباما والكونجرس للخروج برد فعل واضح تجاه الخطوة التي قام بها الجيش المصري الأسبوع الماضي وإزاحته لمرسي. ومع أنه لا أحد يستطيع التوقع على وجه الدقة مآلات الأزمة المصرية وكيف ستحل النخبة السياسية في مصر خلافاتها وحالة الاستقطاب الحاد التي تعيشها، ولا كيف ستتبلور السياسة الأميركية تجاه الوضع المصري. إلا أنه ليس من الصعب تحديد الأخطاء القاتلة التي وقع فيها مرسي خلال السنة التي قضاها في سدة الرئاسة، والتي تدفعنا للاعتقاد بأن عزله كان حتمياً. فلشهور عديدة حاولت إدارة أوباما العمل مع مرسي وإقناعه بأن ينفتح أكثر على الأطراف المعارضة، وأن يعتمد نهجاً تشاركياً يبتعد ما أمكن عن الإقصاء، فضلا عن تشديد الإدارة الأميركية على ضرورة احترام حقوق النساء والأقليات، لاسيما الأقلية الكبيرة التي يمثلها الأقباط في مصر. لكن رغم كل تلك المساعي لم يبدِ مرسي المرونة المطلوبة ولم يسعَ للتوصل إلى الحلول الوسط لتهدئة مخاوف شرائح واسعة من المجتمع المصري، بما فيها تلك التي صوتت له في انتخابات عام 2011. ثم جاءت سلسلة الخطوات التي قام بها مرسي لتنذر بنهايته، ومنها الإعلان الدستوري المثير للجدل الذي أعطى بموجبه لنفسه سلطات واسعة أتاحت له الجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، بالإضافة إلى دخوله في صدامات مع القضاء والإعلام، ثم الأكثر من ذلك تمريره لدستور مثير للجدل، رغم كل تحفظات المعارضة وطابعه الإسلامي الغالب. وبهذه الأخطاء انقلب على مرسي ليس فقط خصومه التقليديون، بل أيضاً بعض الوسطيين وحتى الإسلاميين الذين شعروا بأن ما ناضلوا ضده من حكم تسلطي خلال فترة «مبارك» يُعوض بنظام آخر لم يكتف بلا ديمقراطيته فحسب، بل زاد عليها بانعدام الكفاءة. ونتيجة لهذه التطورات المتلاحقة على الساحة المصرية، وحقيقة أن مرسي لم يكن أبداً محبوباً كشخص، تحوّلت الاحتجاجات التي خرجت في 30 يونيو إلى حشود ضخمة هي الأكبر من نوعها في السنوات الأخيرة، لتتجاوز ما خرج في ثورة 25 يناير التي أسقطت «مبارك». ولم يكن الغضب الذي تدفق إلى شوارع مصر واتخذ شكل حشود كبيرة عاكساً فقط خيبة الأمل من النظام الذي بدأ يتجه نحو التسلط والإقصاء، بل كان بالأساس نتيجة عجز الحكومة عن معالجة الأوضاع الاقتصادية والبيئية الخطيرة التي جعلت مصر على أعتاب الانهيار. فالاقتصاد المصري كان يعاني أصلا من ظروف صعبة لدى تولي مرسي الرئاسة بالنظر إلى أحداث الأشهر السابقة، حيث أغلق أكثر من 1500 مصنع أبوابه منذ عام 2011، وتراجع القطاع السياحي بواقع الثلثين تقريباً، والأهم من ذلك ارتفاع أسعار المواد الأساسية، مثل القمح والديزل والزيت، إلى مستويات غير مسبوقة، ما فرض على الدولة التي تعاني أصلا من شح الموارد، مضاعفة الدعم لتلك المواد علّها تحافظ على أسعارها ولا ترهق المواطنين بأعباء إضافية. ولأن الاستقرار ظل بعيداً عن مصر، وبقي الوضع الأمني غير مستتب، لم ترجع مستويات الاستثمار الأجنبي والسياحة إلى ما كانت عليه في السابق، الأمر الذي أثّر على احتياطات العملة الأجنبية التي انخفضت إلى مستوى خطير، ولم يعد بالإمكان استيراد الحاجيات الضرورية، لاسيما القمح الذي تراجع مخزونه هو أيضاً. وكان على الحكومة أن تتخذ قرارات شجاعة بخفض الدعم على المواد الأساسية لتوفير بعض المال ووقف نزيف العجز، فبدون هذه الخطوات الضرورية والإصلاحات الاقتصادية الهيكلية التي يأتي موضوع الدعم على رأسها، ما كان ممكناً تأمين قرض صندوق النقد الدولي البالغ 4.8 مليار دولار. لكن مرسي، ولكي يضمن تمرير القرارات الاقتصادية الصعبة، كان لابد من تأمين إجماع سياسي، والحال أنه استعدى المعارضة التي أصرت على رفض أي خطوات في هذا الاتجاه واستبعاد الحديث عن التقشف لحل معضلة الموارد المصرية الضئيلة. ومع أنه استطاع الحصول على بعض الدعم من قطر والحصول على وقود بأثمان مخفضة من ليبيا، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لتحسين البيئة الاستثمارية في البلد. هذا في الوقت الذي ارتفع فيه معدل التضخم دون هوادة، وانخفض الجنيه المصري رافعاً كلفة استيراد المواد الأساسية وعلى رأسها القمح الذي يُستهلك على نطاق واسع في مصر. كما قفزت أسعار الوقود بين 40 و80 في المئة عن الثمن المحدد لها بسبب انتعاش السوق السوداء، وهو ما أثّر بدوره على أسعار باقي المواد الزراعية بما فيها الوقود الذي يستخدم في مضخات المياه لسقي المحصول الزراعي. هذه الأوضاع المتردية دفعت البعض إلى اعتبار أن الحالة الاقتصادية في مصر هي الأسوأ منذ الثلاثينيات. وبالنظر إلى الاضطراب السياسي المستمر، فإنه من غير المرجح أن تنفرج الأزمة الاقتصادية في أي وقت قريب. فبنسبة سكان تصل تقريباً إلى 50 في المئة تعيش تحت خط الفقر، تبدو مصر على شفا الانهيار، وهو ما يفسر الحذر الذي أبدته إدارة أوباما وباقي أصدقاء مصر إزاء الأحداث الجارية وعدم التسرع في إصدار الأحكام على التحرك العسكري. فهم يعرفون أن الدراما المصرية وما تشهده من مجريات لها تشعبات تتجاوز الحدود المصرية إلى عموم الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وأن تطورات مطلع يوليو الجاري ما هي سوى البداية لصيف طويل وملتهب.