لم يعزل الجيش المصري محمد مرسي من الرئاسة إلا بعد أن نزلت الملايين إلى الشوارع في احتجاج واسع النطاق وصفته مصادر إعلامية عدة بأنه «أكبر حشد في تاريخ البشرية»، ومن ثم فبوسعه أن يقول في اطمئنان إن ما فعله هو «استجابة» للإرادة الشعبية، التي هي أصل «الشرعية» السياسية، وليس انقلاباً عسكرياً ناعماً أو خشناً، وهو اتجاه تتبناه الأغلبية الكاسحة من المصريين، وتصر عليه، ولا سيما بعد أن أسرع الجيش في اتخاذ إجراءات عملية نحو نقل السلطة للمدنيين وفق «خريطة طريق» ساهمت في وضعها قوى سياسية، على أساس «شرعية ثورية» جديدة، جعلت مما وقع في 30 يونيو 2013 موجة ثانية من ثورة 25 يناير التي اختطفتها جماعة «الإخوان المسلمين» وحرفتها عن مسارها تماماً. فعلى مدار سنة من حكم مرسي بدا واضحاً أن «الإخوان» يفهمون الديمقراطية على أنها مجرد «صندوق انتخابات»، وهذا واضح من كل التصريحات والتعليقات والبيانات والتعهدات والتصرفات التي تصدر عنهم، من دون أن يقدموا أي ضمانات على «نزاهة الانتخابات» أو «تكافؤ الفرص بين المتنافسين السياسيين»، علاوة على إهمال قيم الديمقراطية من قبيل احترام حرية التعبير، حيث تم في عهد مرسي إغلاق قنوات فضائية دون مبرر مقبول وتحويل مئات الصحفيين إلى المحاكمة وسن قوانين مقيدة لحرية الصحافة. كما أن حقوق الأقليات بدت مهددة بسبب خطاب سياسي وديني يهاجم المسيحيين بضراوة ويحرض عليهم، وهوجم المختلفون سياسياً مع «الإخوان»، ووصل الأمر إلى حد تكفيرهم لأنهم «ليبراليون» و«يساريون» على ألسنة قيادات من "الجماعة الإسلامية" و"الجبهة السلفية" وغيرهما من المتحالفين مع مرسي ومن بينهم عناصر من تنظيم «القاعدة». كما أن الأوضاع الاقتصادية والأمنية ازدادت سوءاً وأصبحت الطبقة العريضة من الشعب متذمرة من أحوالها المعيشية الصعبة، مع توقف الاستثمار وزيادة حجم الدَّين الداخلي وانخفاض مستوى تصنيف البلاد ائتمانياً وارتفاع معدلات التضخم والبطالة والأسعار. وتصرف مرسي وكأنه قد جاء إلى الحكم بدعم شعبي كاسح على رغم أنه قد نجح بنسبة طفيفة على منافسه في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفريق أحمد شفيق، شكك البعض فيها نتيجة شبهة تزوير تمت لمنع مسيحيين من الوصول إلى اللجان الانتخابية في صعيد مصر وتزييف الأوراق الانتخابية من منبعها إثر رشاوى يقال إن الجماعة قد دفعتها لعمال وموظفين بالمطابع الأميرية. كما تصرف مرسي دوماً وكأن الشرعية «صك على بياض» منحه إياه الشعب المصري، ومن ثم فإن بوسعه أن يفعل ما يشاء بدعوى أن الشعب قد فوّضه في كل ما يتخذه من قرارات أو إجراءات على رغم تناقض بعضها مع الدستور والقانون والمصلحة الوطنية والاجتماعية. وبدا مرسي مخلصاً لجهة وحيدة هي «جماعة الإخوان» إلى درجة أنه اعترف في حوار متلفز بأنه «تكوينه» و«اعتقاده» مرتبطان بالجماعة، ولأن مرسي هو الرجل الثامن في مكتب الإرشاد، فقد تيقن المصريون بمرور الوقت أن هناك سبعة رجال قبله يتحكمون في القرار، وأن مرسي لا يملك إلا طاعتهم، وفق نمط التربية في جماعة «الإخوان» الذي يقوم على مبدأ «السمع والطاعة». ومع أن مرشد الجماعة قد أقال مرسي من البيعة قبيل انطلاق الانتخابات الرئاسية فإن هذا بدا عملية شكلية في ركاب الخداع المنظم الذي مارسه «الإخوان» على الشعب المصري برمته. والمشكلة العويصة هنا أن هذه الجماعة في بنيتها الفكرية وهيكلها التنظيمي والجزء الغاطس منها تحت الأرض تبدو أقرب إلى «الفاشية الدينية» منها إلى الجماعة الحديثة التي تمتلك ديمقراطية داخلية، أو تؤمن بأن الديمقراطية لا تمارس لمرة واحدة فقط. وعنصر الخداع الآخر هو أن مرسي قدم نفسه قبيل الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة على أنه مرشح الثوار في وجه مرشح نظام مبارك، وانطلى خطابه هذا على قطاعات عريضة من «شباب الثورة»، بل إن بعضهم لم يجد بداً من الانحياز إليه لطي صفحة النظام الذي ثاروا ضده، ولكن بعد فوزه تنكر مرسي لهم، وصمت أو تواطأ تجاه قتل العشرات منهم في الشوارع خلال مظاهرات احتجاجية. وتعامل مرسي على أن ما جرى في 25 يناير ليس ثورة لها مبادئ ومطالب محددة هي: «العيش.. الحرية.. العدالة الاجتماعية.. الكرامة الإنسانية» بل مجرد فرصة تاريخية لتمكين جماعته من رقبة مصر، توطئة لتعزيز إمكانيات أفرعها التي تمتد في أكثر من ثمانين دولة، بغية الوصول إلى ما يسميه الإخوان «أستاذية العالم»، وهو تصور فكري يتعدى الاكتفاء بإعادة «الخلافة الإسلامية» التي كانت قائمة حتى ألغاها مصطفى كمال أتاتورك في عام 1924 إلى السيطرة على العالم وفق ما تسمى «دولة الفكرة»، التي تقوم على مبدأ إخواني واضح هو «أينما كانت فكرتنا كانت دولتنا»، ومن هنا نظر مرسي إلى السلطة التي آلت إليه بوصفها «هبة إلهية» عليه أن يتمسك بها حتى ولو سفك في سبيل ذلك الدم، وهدمت مؤسسات الدولة، وسادت الفوضى. ومع مرور الشهور أخد مرسي يخرج على الشرعية تباعاً حين أصدر في نوفمبر 2011 إعلاناً دستورياً أعطاه صلاحيات مطلقة، وحين تواطأ مع جماعته على تمرير دستور منقوص يبني نظام حكم على أساس ديني، وحين سن قوانين تمنع تداول السلطة وتخل بتكافؤ الفرص بين القوى السياسية المتنافسة، وكذلك حين عين المقربين منه، على رغم تواضع إمكاناتهم، في المناصب العليا للدولة. وعلاوة على هذا شرع في بناء نظام مواز خارج سلطة الدولة يعتمد على مليشيات من المتطرفين الإسلاميين الذين أخرج مرسي الكثيرين منهم من السجون وفق ما يملكه من حق «العفو العام». وعلى التوازي فتح مرسي معارك ضد كل مؤسسات الدولة، لا سيما القضاء والشرطة والإعلام، وكانت هناك معركة مكتومة بينه وبين القوات المسلحة. وفي سنة كاملة حكمها مرسي لم يزر مصر أي مسؤول كبير سوى حليفه، أمير قطر السابق، الذي كان عليه أن يأتي إلى القاهرة حتى يمكنه دخول قطاع غزة من الأراضي المصرية. ومع أن مرسي قام بزيارات خارجية عدة فإنها لم تعد على البلاد بأي فائدة تذكر. ولكل هذه الأسباب تراكم الغضب في نفوس المصريين وصدورهم وخرجوا في 30 يونيو ليستكملوا ثورتهم الناقصة، ولم يكن أمام الجيش خيار سوى الانحياز لإرادتهم ومنع اندلاع حرب أهلية، نظراً لأن مرسي العنيد المتصلب الذي ينكر على الدوام أن شعبيته قد تدهورت، ما كان له أن يستجيب للناس حتى لو باتوا في الشوارع شهوراً وسالت الدماء أنهاراً، مع أنه قد تعهد أيام حملته الانتخابية بأنه لو نزل مليون محتج ضده إلى الشارع وهتفوا في وجهه «ارحل» فسيغادر القصر الرئاسي فوراً.