مرة أخرى تثبت الأحداث الجارية في مصر أن الإدارة الاقتصادية السيئة يمكن أن تؤدي إلى تغير الأنظمة السياسية بسبب البطالة والتدني في مستويات المعيشة، وبالأخص إذا ما أقحمت أفكار إيديولوجية مغلفة بشعارات رنانة بقضايا الاقتصاد وحياة الناس المعيشية، إذ سرعان ما تتبخر الشحنات العاطفية ليحل محلها الواقع المادي المتردي. لقد أشرنا هنا أكثر من مرة إلى خطورة أحداث «الخريف العربي» على قضايا التنمية، وبالأخص بعد فوز تيار الإسلام السياسي ممثلاً في «الإخوان المسلمين» في كل من مصر وتونس، الذي ركن الاقتصاد ومطالب الناس الحياتية واتجه إلى الانتقام مستبعداً خبرات اقتصادية مشهوداً لها بالكفاءة بعناصر لا تمت إلى إدارة التنمية بصلة. وعودة إلى التاريخ، فإن أسوأ أوضاع أوروبا الاقتصادية حدثت في القرون الوسطى عندما سيطرت الكنيسة على إدارة مرافق الحياة، بما فيها الاقتصادية وفقدت بسببها البلدان الأوروبية أفضل مفكريها إما بسبب الهجرة أو العزل أو الانكفاء. لقد أعاد التاريخ نفسه على شكل مأساة، مرة في إيران التي تعاني من تدهور اقتصادي مريع على رغم ثرواتها الهائلة، ومرة أخرى ولكنها لحسن الحظ قصيرة في مصر، حيث فقد الآلاف وظائفهم، واختفت الاستثمارات وارتفع معدل البطالة إلى 13,2 في المئة حالياً وتدنى الأداء الاقتصادي، وارتفع عجز الميزانية، وأصبحت مصر على شفا الإفلاس بعد فترة أقل من عامين فقدت خلالها كامل احتياطياتها النقدية تقريباً، مما يدل على الفشل الاقتصادي للأحزاب المتأسلمة بطائفتيها. ومن أجل التوضيح، فإنه لا يمكن الخلط بين الصيرفة والتمويل الإسلامي الذي حقق نجاحاً في العديد من البلدان العربية والإسلامية، وبالأخص في دول الخليج العربية وبين تسييس الاقتصاد وصبغه بلون إيديولوجي بعيد عن الحرفية مثلما حدث في مصر ويحدث في تونس التي يبدو أنها لم تتعلم من التجربة المصرية، حيث صرح زعيم حركة «النهضة» وهو الواجهة الرسمية لحزب «الإخوان المسلمين» بأن «من يعتقد بتكرار التجربة المصرية في تونس فهو واهم». ومع أن الأوضاع الاقتصادية في تونس لا تختلف كثيراً عن مصر، حيث بلغ معدل البطالة في بداية هذا العام 16,5في المئة على رغم جهود الطرف الليبرالي المشارك في الحكم للحد من عزل الكفاءات التي لا تتوافق مع نظام حركة «النهضة». وإذا ما استمرت الأوضاع في التدهور، فإن التغيير قادم لتونس على رغم أوهام رئيس حركة «النهضة»، إذ إن هناك مؤشرات لتدهور اقتصادي وتذمر مستمر في الأوساط الشعبية وفي أوساط قطاع الأعمال الذي خسر الكثير بسبب عدم الاحترافية في إدارة الاقتصاد. إن الدين الإسلامي الحنيف يتضمن الأسس العامة التي يقوم عليها البنيان الاقتصادي الذي يضمن مصالح الجميع ويتصف بالرحمة، بما في ذلك نظام الزكاة ذو الطابع الإنساني، إلا أن ما حدث في البلدان العربية هو سيطرة سياسية لتنظيمات استغلت الدين، كواجهة لتحقيق مصالح إيديولوجية سرعان ما تعرّت وفقدت مصداقيتها في فترة زمنية قصيرة. وما هو مهم الآن بعد سقوط نظام «الإخوان» في مصر هو وضع الاقتصاد في مساره الصحيح وترك إدارته للمحترفين كما طالب بذلك رجال الأعمال الذين طالبوا بفريق محترف لإدارة الاقتصاد، وذلك من أجل إعادة الحيوية إلى القطاعات الاقتصادية، وبالأخص القطاع السياحي والخدمات والنقل والقطاعات الإنتاجية والعمل على عودة رؤوس الأموال واستقطاب الاستثمارات الأجنبية والسعي إلى تنفيذ المشاريع التنموية، وبالأخص في مجال البنى التحتية وترميم الضرر الذي حدث خلال العامين الماضيين لتوفير فرص العمل وتنمية المشاريع الصغيرة التي تأثرت كثيراً وتدهورت بسببها المستويات المعيشية لقطاعات واسعة من المجتمع، مما سيعيد الثقة ويضع مصر مرة أخرى على طريق التقدم والتنمية، وذلك بدعم كبير من دول مجلس التعاون الخليجي.