كم تمنيتُ صدور هذا الكتاب؟.. دعني أحْسِبْ؛ سنة، سنتان، عشر، عشرون.. أضعتُ الحساب! كتاب «الطبخ العراقي وتاريخ مآكله»، تمنيته مذ كنت نائب رئيس تحرير مجلة «الغذاء العربي» في لندن في الثمانينيات، ولم يخطر ببالي قطّ أن باحثة عراقية ستؤلفه، وسيصبح حال صدور طبعته الأولى بالإنجليزية عام 2003 سلاحاً ضد غزو العراق. فالكتاب يكشف في 574 صفحة أن العراق الذي احتلته واشنطن بدعوى إنشاء دولة متحضرة كان يصنع قبل 8 آلاف عامٍ 20 نوعاً من الجبنة، ومائة نوع من الحساء، و300 نوع من الخبز. وكثير من أسماء ووصفات الطعام وأدواته المعروفة عالمياً ابتكرها أجداد العراقيين، بما فيها «الكيك»، أو «الكعكة»، واسمها باللغتين السومرية والأكدية «كوكو»، وكانوا يُطيبونها بماء الورد. و«الكباب» معروف عالمياً باسمه البابلي «كبابو»، و«المريس» يلفظ «ماش» بالإنجليزية و«ميرسو» بالأكدية. وقد أبدعوا في طبخ المحشيات، والصوصج، والصلصات، والمخللات، والمشويات، بما في ذلك السمك المدخن. والسندويتش، الذي يرتبط اسمه بالأرستقراطي البريطاني مونتاجيو في القرن السابع عشر، ابتكره في الحقيقة الخليفة المتوكل في القرن التاسع ميلادي، وهو من مآكل السوق في بغداد، وكان يُدعى «الوسط المشطور». وفي الكتاب 16 وصفة سندويتش عراقية، مع رسوم منمنمات ملونة ساحرة الجمال لنساء يتناولنها في المتنزهات. «مباهج من جنائن عدن» Delights from the Garden of Eden العنوان الرئيسي للكتاب الذي ألفته الباحثة الأنثربولوجية نوال نصرالله. وهو سفر فريد في 20 فصلاً، حسب أصناف الطعام من الخبز، ومنتجات الألبان، والمقبلات والسلطات، وعددها 21 وتستهلها وصفة بابلية قبل 4 آلاف عام لربة البيت الرشيدة، لصنع صحن مشهيات من المرقة المتخلفة عن طبخ اللحم، بمجرد غمسها بالخس، والثوم، والخل. ويتضمن الكتاب الموسوعي 800 وصفة لطبخ الرز، والمرق، والبقول، واللحوم، والدجاج، والأسماك، والفطائر، والحلوى، والمثلجات، والمربيات، والمخللات، والمحشيات، والمشروبات التي كان السومريون يقولون عنها «الطعام هو الشيء، والشراب هو الشيء». وفصل خاص بطقوس تناول الطعام، وآداب الولائم، وضمنه واحدة من أكبر الولائم في التاريخ دعا إليها الإمبراطور آشور بانيبال 70 ألف ضيف، أتوا على لحوم أربعين ألف بقرة، وثور، وخروف، و5 آلاف غزال، وبط، وأوز، وطير، و10 آلاف طير حمام. ومباهج الطعام في دار السلام ليست وصفات طبخ فحسب، بل مهرجانات من البهجة، والنكات، والأغاني، والأشعار، والرقصات، والمنحوتات، والمنمنمات، وحتى رسوم كاريكاتير الفنان سعاد سليم، الذي صوّر بخطوط بسيطة مظاهر الحياة البغدادية، كما لم يفعله فنان قبله، بمن فيهم شقيقه جواد سليم. ردود الأفعال على صدور الكتاب، وقت الغزو، دفعت رالف بلومنتال، أحد أبرز محرري «نيويورك تايمز» إلى مقارنته بالأوديسة، ملحمة الشاعر هوميروس، «أوديسة الأكل عبر 8 آلاف عام في حضارة ما بين النهرين، وأقدم وصفات الطبخ في العالم». وعرف القراء من الكتاب أن عادة وضع الخردل والملح على موائد الطعام أبدعها العراقيون قبل آلاف الأعوام، وكانوا يكتبون عنه الشعر: «أيها الملح الذي ولد في المكان الساطع، لا طعام من دونك يُعدُّ في المعبد»، وإليهم يعود تقليد اعتبار المشاركة في «الملح والخبز»، إشارة إلى الرفقة والعشرة التي لا تُخان. كما ابتكروا أهم أدوات الطبخ المستخدمة اليوم، وهي المقلاة، وبشكلها المستدير الحالي، وتزينها أشكال هندسية ورسوم حيوانات، كالأسد أو السمكة، تنقش على حوافها، «لإضفاء البهجة على عملية الطبخ، التي كانت تُدّرسُ فنونها في معهد تعليم الطبخ، وفترة الدراسة فيه 16 شهراً». وكانت الدولة العباسية تُعيّن مفتشين على المطاعم العامة يُسمون بـ«المحتسبين». والكتاب، كما لاحظ الكاتب الأميركي كليفورد رايت، أكثر من كونه كتاباً عن وصفات الطبخ العراقية، بل العربية عموماً. والعراق بلد فريد في التاريخ شيّد مرتين إحدى أعظم الحضارات قبل الميلاد وبعده. وعثور الباحثة على حلقة الوصل التاريخية المفقودة بين حضارات العراق القديم وحضارة عصر النهضة العربية الإسلامية، مأثرة علمية تفتح آفاقاً جديدة في دراسة تاريخ العلوم والفلسفة. «في العصر العباسي استعادت بلاد ما بين النهرين مجدها القديم، وتحولت بغداد إلى عاصمة مزدهرة وكوزموبوليتانية. وبالإضافة إلى ذخيرتها الهائلة، الحيوانية والزراعية، أنتجت مواد غذائية جديدة أضافت إلى غنى وتنوع مطبخها». وأكد اكتشاف مدونات طينية تحمل وصفات طعام بابلية نهاية القرن الماضي، أن «الوقت حان للابتعاد عن الرأي التبسيطي السائد الذي يعتبر المطبخ العباسي مدينا بكل ما أتى به للمطبخ الفارسي». وتكشف الباحثة حقائق مدهشة عن سكان العراق الأصليين؛ نصارى الكلدان والسريان والآراميين، وما يُسمونَ عموماً «أنباط العراق» الذين حفظوا تراثه القديم في الطعام، وكان معظمهم مزارعين تُكنَّى باسمهم أنواع البصل والزعتر، والمصطكي، والملفوف، والتوت، وصناعة الصلصات المشهورة «النبطية». و«أطيلوا الجلوس على الموائد وأكثروا من الحديث فإنها أوقات لا تُحتسبُ من أعماركم»، نصيحة الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه تختتم الكتاب، الذي يذكر86 قصيدة مقتبسة من «كتاب الطبيخ» لابن سيّار الورّاق الذي عاش في العصر العباسي، وكانت نوال نصرالله قد ترجمته للإنجليزية، وقدّمت له ببحث احتل نصف الكتاب، ويُعتبر من أذكى الدراسات الأنثروبولوجية عن الطعام، وفيه وصفة شعرية لطبخ سمك شبوط نهر دجلة، قالها الأمير ومؤلف كتب «الطبخ» إبراهيم ابن المهدي، شقيق هارون الرشيد: «وطاهٍ أتى في يوم قيظ بصحفة، وفيها من الشبوط كالجدي أحمرا. وأحكمه شيّاً وصيّر حشوه، كرفساً وكراثاً وزيتاً وصعترا. وهيّا له من بعد ذاك صباغة، عصارة رمان ولوزاً وسكرا. فجاء بها كالشمس لوناً وبهجة، تعاطيك انجوجاً ومِسكاً وعنبرا. فلما كشفنا جلده عنه راعنا، بياضاً وإشراقاً وحسناً وجوهرا. رأيناه شمساً ساعة جاءنا به، فلما كشفنا جلده صار أقمرا». وتعتبر الباحثة أن كتابها، الذي صدر بطبعة جديدة نفيسة، هو بالنسبة لها «كما كانت القصص بالنسبة لشهرزاد». وكما كانت حكايات شهرزاد وسيلتها للنجاة من سيف الموت المسلط على رأسها ألف ليلة وليلة، كذلك كتاب نوال نصرالله التي كانت آخر الطلبة العراقيين المبتعثين للدراسة في الولايات المتحدة قبيل حرب عام 1991، حيث اضطرت عندما انقطعت مخصصات البعثة بعد فرض العقوبات على العراق للعمل «جرسونة» في مطاعم بوسطن، وفقدت ابنها بلال (12 عاماً) لخطأ الأطباء في تشخيص صداع رأسه الذي كان جلطة دماغية، ولم يُقعدها سرطان الثدي عن إكمال الكتاب وإهدائه «إلى الذكرى الحبيبة لابني بلال الذي كان ملهمي». وتذكر أنه كان يعرف -رغم صغر سنه- معنى الطعام، وكتب في نشرته المدرسية: «الحب هو ماما تصنع لي فطائر التفاح». ورمضان كريم لملايين نساء العرب والمسلمين اللواتي يبدعن الحياة والطبخ والحب رغم الحروب، والحصار، والغزو، والفتن الطائفية.