مشاهد مهيبة تتابع وسائل الإعلام ما يتيسر لها منها منذ يوم 30 يونيو الماضي الذي دخل تاريخ مصر من أوسع أبوابه. فقد خرج في ذلك اليوم وحده أكثر من كل الذين نزلوا في أحداث انتفاضة 25 يناير على مدى 18 يوماً. وتواصل نزول المصريين القلقين على روح دولتهم الوطنية إلى الميادين والشوارع لإحباط محاولة جماعة «الإخوان» الانقلاب على الشرعية الشعبية الجديدة عبر تأجيج عنف داخلي ومحاولة استجلاب ضغط غربي. لذلك يبدو المصريون الآن كمن يستردون روحهم الوطنية في مختلف أنحاء بلدهم وصولا إلى محافظات جنوبية لم يحدث فيها أي تفاعل مع انتفاضة 25 يناير، وفي مناطق ريفية لم ينضم فلاحوها إلى احتجاجات شعبية منذ ثورة مارس 1919 ضد الاحتلال البريطاني. ولأن احتجاجات يوم 30 يونيو وما بعده مهيبة بالفعل، فقد اعتبرتها وسائل إعلام عالمية عدة الأكبر في العالم، وذهبت إحداها إلى أن ذلك اليوم شهد أكبر وجود بشري في الشوارع عبر التاريخ، وقد يكون هذا صحيحاً بالأرقام المطلقة، لكن ليس بنسبتها إلى إجمالي عدد السكان. فإذا أخذنا المتوسط العام للتقديرات المتباينة لعدد المشاركين في احتجاجات 30 يونيو، وهو حوالى 20 مليوناً، فهذا يعني أن واحداً من كل أربعة مصريين نزلوا إلى الشارع في ذلك اليوم. وهذه النسبة قد لا تعتبر غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، بما في ذلك تاريخ مصر، لأن المشاركة في جنازة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الفعلية في القاهرة والرمزية في المحافظات الأخرى جميعها لم تكن أقل قياساً إلى عدد السكان في سبتمبر 1970، وهو 30 مليوناً. غير أن دلالات الانتفاضة المصرية الجديدة من الناحية النوعية تبدو أكثر أهمية من كمها أو حجم المشاركة فيها، لذلك كانت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية دقيقة في نظرتها لهذه الانتفاضة مقارنة بغيرها من وسائل الإعلام الغربية. ففي الوقت الذي ركزت صحف وقنوات تلفزيونية عدة على الحجم، التقطت «ليبراسيون» فى عنوانها الرئيس جوهر هذه الانتفاضة وهو «صحوة المصريين». فالمغزى الجوهري لهذه الصحوة هو التمسك بالأمل في استعادة روح مصر التي باتت مهددة بالإزهاق جراء قفز جماعات ترفع شعارات دينية على انتفاضة يناير 2011، فقد أفرطت بعض هذه الجماعات، وخاصة جماعة «الإخوان»، في استخدام أدوات السلطة للهيمنة على مؤسسات الدولة وأجهزتها ومفاصلها، كما ذهبت بعيداً في استخدام الشعارات الدينية وسيلة لدعم هذه السلطة، ومضت خطوةً أبعد عندما تجاوزت الشعارات الإسلامية في مجملها، ولجأت إلى إثارة نعرة مذهبية لم تعرفها مصر من قبل. وأسرفت في ذلك وصولا إلى تكفير الشيعة والتحريض ضدهم إلى الحد الذي دفع إلى قتل أربعة منهم على الهوية بعد سحلهم، ثم التمثيل بجثثهم، في مشهد بشع غريب على مصر وروحها، مثله في ذلك مثل كثير مما حدث فيها خلال العامين الأخيرين. لذلك خرج مصريون من مختلف فئات المجتمع واتجاهاته وأجياله إلى حد يجيز القول إن من نزلوا إلى الشوارع يعبرون عن مصر الحقيقية ويسعون إلى مواجهة محاولات تغيير هويتها الوطنية باعتبارها دولة لكل مواطنيها الذين يعرف كل منهم دينه جيداً، مسلماً كان أم مسيحياً. فلا يحتاج المسلمون منهم إلى أوصياء عليهم يبدون بالنسبة إليهم كما لو أنهم يبشرون بدين آخر غير الإسلام الذي نشؤوا عليه ويدعون إلى شريعة غير تلك التي يعيشون على أساسها فيأكلون ويشربون ويتزوجون ويعاملون بعضهم البعض وفقاً لها. خرج المصريون ومازالوا يخرجون من أجل روح مصر، كما لم يخرجوا من قبل. واختلف نزولهم إلى الشارع هذه المرة نوعياً وليس فقط كمياً. فقد خرج عمال وفلاحون وموظفون ومهنيون وحرفيون وأساتذة جامعات ورجال أعمال، مثلما نزل عاطلون تخرج بعضهم حديثاً ولم يجدوا عملا بينما تعطّل بعض آخر وفقدوا عملهم إما بعد انتفاضة 2011، أو بعد تولي مرسي الرئاسة في 30 يونيو 2012، ونزلت أيضاً ربات بيوت بعضهن جدات حملن أحفادهن على أكتافهن خوفاً على مستقبلهم، ونساء من مختلف الفئات والأجيال والمناطق. وكان الاختراق الكبير في هذه الانتفاضة على المستوى المجتمعي هو نزول نساء في محافظات جنوب مصر المحافظة، بل في أكثرها تشدداً بسبب قوة التقاليد الاجتماعية الراسخة عبر التاريخ، مثل محافظة قنا التي شهدت مسيرات لسيدات وفتيات في ظاهرة جديدة لا سابق لها. فقد كان الخوف على روح مصر أقوى من الخوف على التقاليد المحافظة التي لم تغب عن المشهد حيث خُصصت مسيرات مستقلة للنساء تحت حماية الشباب الذي نظّم أطواقاً حولها. ولا تقل أهمية عن ذلك مشاركة قبائل جنوب مصر العريقة، التي حرصت طول تاريخها على أن تبقى بعيدة عن أي صراعات سياسية واختارت أن تقيم علاقة إيجابية مع كل سلطة حكمت البلاد على مدى تاريخها لكي تحافظ على مصالحها وتنأى بنفسها عن أي تجاذبات أو تقلبات. وحين تغير هذه القبائل موقفها «المطيع» للسلطة -أية سلطة- فهذا يعني أنها وجدت ما يفرض عليها أن تغير سلوكاً راسخاً لديها وأن تعرّض مصالحها للخطر من أجل ما هو أكبر من أي مصالح. وكان في إمكان شيوخ هذه القبائل وكبارها أن يكتفوا بترك الحرية لأبنائها للمشاركة في الانتفاضة، أو حتى تشجيعهم على ذلك بدون اتخاذ موقف. لكنهم أرادوا، فيما يبدو، ألّا يتخلّفوا عن دور مستحق عليهم كغيرهم من المصريين في الذود عن روح مصر والدفاع عن الوطن الذي يَهون في سبيله كل شيء. لذلك وجدنا أدواراً معلنة لقبائل مثل الأشراف والعرب والحميدات والهوارة، وغيرها، بمختلف بطونها في حماية المسيرات وتأمين المتظاهرين. وهكذا توحّد المصريون الخائفون على روح مصر في مواجهة من يهددونها، واستظلوا في وحدتهم الوطنية هذه بعلمهم ذي الألوان الثلاثة وهم يهتفون باسم وطنهم بحروفه الثلاثة، ويدعمون مؤسسات دولتهم الوطنية التي أبت أن تتخلى عن مسؤوليتها، فقد رفضت هذه المؤسسات تهديد الرئيس السابق وجماعته بحرق مصر إذا وقفت مع رغبة أغلبية الشعب في الاحتكام إلى انتخابات رئاسية مبكرة. فلم يكن هناك خيار آخر أمام الشعب ومؤسساته الوطنية في دولة مهددة في روحها وليس فقط في اقتصادها وأمنها وسلامتها ودورها. وها هي مصر تواجه هذا التهديد وتخوض أكبر معركة في تاريخها الحديث من أجل استعادة روحها التي افتقدها محبوها في المنطقة والعالم في الفترة الماضية. وهى ليست معركة سهلة، لكنها السبيل الوحيد لاستعادة هذه الروح.