مرَّت الإدارة الأميركية، على ما نقل عن مداولاتها، بلحظات من الحيرة إزاء الحدث المصري. ورغم أنها تواكب الوضع يوماً بيوم، وتعرف جيداً مسار التطورات وصولاً إلى يوم 30 يونيو، وقعت الإدارة في موقف صعب وملتبس. كانت هناك حقيقتان، ثورة شعبية تريد إسقاط الرئيس، ورئيس منتخب راكم الأخطاء ولم يسجل أي إنجار. وما زاد التعقيد أمران: أولهما أن الجيش المصري اتخذ موقفاً واضحاً بانحيازه إلى الشعب الثائر على الرئيس، والثاني أن تقديرات السفيرة الأميركية في القاهرة كانت في أفضل الأحوال منفصلة عن الواقع وفي أسوئها محابية للحكم "الإخواني". قد لا تكون السفيرة آن باترسون أخطأت في قولها إن احتجاجات الشارع ليست وسيلة للتغيير، لكنها أخطأت في التعامي عن فشل الحكم في طرح البدائل السياسية كما في اكتساب ثقة المجتمع. المهم في ما حصل إثباته، كما في ثورة 25 يناير، أن الشارع المعبر عن شعب مصر لا يخضع لمعايير وإملاءات خارجية. ومن جهة أخرى لم يندفع الشارع فوراً إلى الانقلاب على الشرعية، وإنما وجه التحذير تلو التحذير وكان على الحكم أن يفهم ويستوعب ويتصرف، ولما أكد عجزه وفئويته أصبحت "شرعيته" موضع تساؤل وتشكيك. ذاك أن الشرعية ليست تفويضاً إلهياً ولا تمنح صاحبها ميزة لتحدي الشعب أو تجاهله. هذا على الأقل ما انبثق من المفاهيم العامة التي بلورتها الثورة على النظام السابق، وهو ما لا تزال الميادين المتنافسة تذكِّر به، لكن الشارع "الإخواني" انتهى إلى نسيانه ليتمترس وراء "الشرعية" التي يعتبرها مكسباً له وحده. ثمة فوارق بين الثورتين. في الأولى أفلت النظام قواه الأمنية لإخماد الاحتجاجات ثم لجأ إلى الجيش الذي رفض مواجهة الشعب واحتضن الثورة. أما في الثانية فوقف الجيش والشرطة معاً إلى جانب المحتجين الذين يريدون إنهاء رئاسة محمد مرسي الذي قررت "جماعته" إفلات شعارها ضد الجيش والشرطة وضد الشارع الآخر فلم توفر لـ"الشرعية" أي تزكية خاصة بل برهنت أن الجيش كان محقاً في موقفه لأن المبادرة الوحيدة التي هيأها "الإخوان" كانت الحرب الأهلية. وبذلك يكونون قد ختموا مسلسل أخطاء مرسي بالخطأ الأكبر، القاتل، لأن الجيش والمجتمع المصريين كفيلان بإجهاض هذه الحرب وإفشالها. كانت المرة الأخيرة التي تحاور فيها محمد مرسي مع أقطاب المعارضة قبل أسابيع من إصداره الإعلان الدستوري الذي استحوذ فيه على كل السلطات والصلاحيات متجاوزاً القضاء بل فاتحاً معركة معه. وأتبع ذلك بالإيعاز إلى ائتلاف الإسلاميين لحسم الجدل حول الدستور واعتماد نسخته الأخيرة ثم المسارعة إلى الاستفتاء عليها. بعد ذلك، انعدمت الثقة تماماً، ولم يعد هناك مجال للحوار، طالما أنه اختار الحكم بالمغالبة والقسر، لم يتنبه ولا التفتت جماعة "الإخوان" إلى أن النظام أصبح معطوباً، بل تجاهلوا غير الإسلاميين الذين صوتوا لمرسي رئيساً، والأهم أنهم استهزأوا -كما ظهر في تصريحات عصام العريان ومحمد البلتاجي، وأبرز الأزلام المتأخونين عصام سلطان- بالرأي العام المصري ولا سيما بأصوات المعارضة وآرائها، لينكبَّوا بعدئذ إلى التمكين طالما أن هناك سلاحاً في أيديهم: الدستور والشرعية الانتخابية. وبناءً على ذلك أعماهم الغرور عن رؤية تصاعد مشاعر الكراهية تجاههم، حتى أنهم راحوا يتساهلون مع من يطلق فتاوى تحدد السلوك الأمثل مع المعارضين مراوحة بين الضرب والسجن والقتل. أي أنهم خطوا الخطوة الأخيرة نحو نشر روح ميليشاوية في صفوف أنصارهم وعموم الإسلاميين. من الواضح أن المشكلة كانت في العقل السياسي "الإخواني" نفسه، ولم تكن في الخلاف على "الشرعية". كان من شأن "الجماعة" أن تبادر بكل وضوح وعلانية إلى جعل "رئيسها" محتضناً من جانب فئات الشعب كافة وليس مداراً من مكتب الإرشاد، إلى جعله فرصة لمصر وللوحدة الوطنية وليس فرصة من لا مهنة لهم غير الإسلام والأسلمة. ويؤمل بأن يكونوا فهموا الآن أنهم لم يكونوا مؤهلين لإدارة الدولة، وأن الدولة المدنية -كمطلب اجتماعي وشعبي، داخلي وخارجي- لا يمكن أن يديرها العسكريون أو المؤدلجون دينياً. كانوا من أكثر المؤهلين لإدراك أن الشعب قرر أن يبقى في حال ثورة إلى أن يتبلور وضع يصرفه عن الشارع، لكن المكابرة و"سرقة الثورة" وسياسات الإقصاء أبقته على تأهبه. بالعودة إلى الموقف الأميركي، لا شك أنه صدم بانهيار مراهنته على الإسلام المعتدل الذي ظن خطأ أن "الإخوان" يمثلونه، بل أخطأ أيضاً في اعتبار "الإخوان" قادرين على إقامة حكم "مدني". فالمسلم يمكن أن يكون مدنياً، أما الإسلامي فلا يهمه سوى تنظيمه، ولا يتردد في ترجيح الخيارات العنيفة باعتبار أن الولاية الإلهية التي يتوهمها تمنحه حق تأديب الآخرين بعد تكفيرهم وتخوينهم.