تغطية العجز الديمقراطي في أوطاننا العربية لا يمكن أن تختصر البتة في صناديق الاقتراع، والتبشير بأفكار علماء القانون الإداري في التقييم الانتخابي ونوعية الاقتراع وشروط الانتخاب وعدد معمري غرفتي البرلمان وغيرها من المسائل التقنية القانونية، بل لابد من إعادة تأهيل للأدمغة السياسية وبناء وعي ثقافي جديد بالمجال السياسي انطلاقاً من أن السياسة هي فن إدارة الاختلاف... وتحتاج السياسة إلى مسؤولين أكفاء، وإلى أذكياء ومتمرسين تكون مصلحة الدولة عندهم فوق مصلحة الجماعة والحزب. لقد أخطأ «الإخوان المسلمون» في مصر قراءة أسطر «الربيع العربي»، مع أن جمله كانت مشكولة ومكتوبة بمداد واقعي وموضوعي؛ فلم تكن الثورة كما جاء في مقالة الدكتور محمد البرادعي في مجلة «فورين بوليسي» تهدف إلى تغيير الأفراد بل إلى تغيير طريقة التفكير، ولكن ما نراه الآن هو مجرد تغيير للوجوه، مع نفس النمط في التفكير كما كان الحال في عهد مبارك، بغطاء ديني على وجه الكعكة، فالحلقة المفقودة هنا هي غياب إنتاج عقل سياسي جديد يتداخل تداخلاً تاريخياً مع معضلات المجتمع والدولة فيفهم العقل أبجدياتها ويقدم معرفة علمية قابلة لترشيد العمل السياسي من أجل عمليتي التغيير والممارسة. فقد بقي «الإخوان» في خوف ورهبة من الآخر، ومن هنا شيوع نظرية المؤامرة عندهم وعند غيرهم، بمعنى أن مبدأ الثقة يزول وينتهي، والثقة هي القشرة الحامية للدولة وللمؤسسات، فبدونها لا يمكن تمرير أي شيء من أصول الحكم لا في الدولة المركزية ولا في المحافظات ولا في البرلمان، فتتفشى خزعبلات العمل السري والتعيينات على رأس المؤسسات انطلاقاً من مفهوم البيعة المطلقة المختزلة في علاقة الشيخ بالمريد، وليس على أساس الاختصاص والخبرة والقدرة على تسيير الشأن العام، وهذا نوع من التربية السياسية والحزبية السلطوية التي لا تؤتي أكلها، وضررها خطير جداً. كما أن هناك نتيجة أخرى في هذا النوع من الفكر ألا وهي العمل السري ابتغاء اتقاء شر الآخر وما يصاحب ذلك من التلفظ بنوع من الكلام والعمل في اتجاه مخالف... فلا يستوي عند السياسي ظاهره وباطنه في الأمور التي تحتاج إلى العلن والحقيقة السياسية لأن هناك مسؤولية ومحاسبة والارتباط بينهما مسألة ديمقراطية لا يعلى عليها. ثم إن السياسة هي فن إدارة الاختلاف، فلا يمكنك أن تزيل عن الآخر لباس الشرعية والمشروعية سواء كان قريباً من توجهك الإيديولوجي والفكري أو كان في المعارضة، فكلاهما يعمل في إطار الشرعية السياسية والعمل القانوني، وعليك أن تتمتع بالدهاء والذكاء السياسيين لكي لا تقصي أحداً من التواجد في المجال السياسي، وعليك أن تتمتع باللياقة والليونة لإرضاء هذا الطرف أو ذاك؛ أما إذا عاديت الجميع وهمَّشت الآخر فإنك أجهزت على نفسك ووقعت على نهاية حياتك السياسية. إن خروج شرائح المجتمع إلى الميادين والطرقات للمناداة بإسقاط الحكومات الديمقراطية مسألة عادية كما كان قد وقع في إيطاليا في عهد حكومة برلسكوني، أو في الملكية الإسبانية في عهد حكومة ثباتيرو، وقد تقرر تلك الحكومات كما في المثالين السابقين انتخابات سابقة لأوانها، بمعنى أنها تعي في قرارة نفسها أنها ستفقد كراسيها لأن الثقة فقدت بين الحاكم والمحكوم. ولكننا هنا نتحدث عن مجتمعات ديمقراطية، وعن دول مؤسسات، وليس عن دول أفراد، أي أننا نتحدث عن تجارب ديمقراطية بنت مؤسسات قوية لا تتهاوى بسرعة، وعن عقول سياسية متقدة وذكية. أما في المثال المصري فإننا نتحدث عن تجربة حديثة ومعقدة على الفاعلين فيها التوفر على الحكمة والبصيرة واستحضار مبدأ التوافق في تسيير شؤون الحكم، ولكن «الإخوان» ساروا عكس الأمواج فكانت بداية النهاية. ولا يمكن البقاء في الماضي. فلهذا العصر قواعده وأحكامه وأصوله، والبيئة الوطنية والجهوية والدولية تتطور بسرعة البرق. فلا يمكن الدخول إلى حقل السياسة من باب الضغينة فهو باب جهنم بعينه، بل يجب الدخول إلى هذا الحقل من باب التوافق وإدارة الاختلاف والتنمية التي ينشدها الشباب والتفاني في تسيير الشأن العام. والمرحلة القادمة صعبة صعبة جداً والخشية أن ينسى الخاص والعام دروس الماضي ويرتكبوا أخطاء إسلاميي وجيش الجزائر في تسعينيات القرن الماضي حيث راح وراء هذه الحرب الخفية (la guerre invisible) على حد تعبير السوسيولوجي الفرنسي بنيامين ستورا (Benjamin Stora) ما يزيد عن مئة ألف جزائري في أقل من عشر سنوات. والخشية أن ينسى الجميع قيمة الوقت وهو العدو الحقيقي في القرن الحادي والعشرين، كما أن الخشية أن يزج ببعض الفاعلين السياسيين للعمل في الخفاء وتحت الأرض وهذا سيكون نهاية الديمقراطية. والمطلوب خلق أحزاب يمينية محافظة تتماشى مع قيم العصر من توافق وتعاقد تجمع المحافظين وكل اليمينيين في مقابل اليساريين ليبقى الليبراليون في الوسط يتحالفون مع هذا الجانب أو ذاك، وهذه مسألة صعبة التنفيذ ولكن فيها الخلاص لمن أراد بالمجتمع أن يصل إلى بر الأمان، وليحس الجميع بحضن دافئ يشعر بالأمان والكرامة وبالانتماء إلى التاريخ. إن بناء فكر ووعي سياسي جديد يتطلب وقتاً طويلاً يبدأ من البيت والمدرسة إلى أن يبلغ الطفل أشده فيتقوّى وعيه وثقافته السياسيتان الديمقراطيتان والاستثمار في هذا كله يجب أن يكون قد بدأ يومه الأمس وهذا ما لم يقع.