في عام 1930 كان تشرشل أول المتوجسين من صعود أدولف هتلر، كان يتابع أخباره مبكراً باهتمام أثار استغراب كل من حوله، وحينما قام تشرشل بإطلاق تحذيراته من صعود النازية لم يكن أحد يأبه به، ولم تلق تحذيراته بأن ألمانيا مع هتلر قد تتسبب بحرب ثانية عظمى، آذاناً صاغية من الساسة البريطانيين والأوروبيين، بل كان أحياناً موضع تندر وسخرية بأنه الشخص المهووس، والمرجف في المدينة، وصاحب الأساليب القديمة. أثناء زيارة تشرشل لألمانيا عام 1932 مع عائلته في ذلك العام، أي قبل وصول الحزب النازي إلى السلطة بعام واحد عبر صناديق الانتخابات، حرص تشرشل على أن يلتقي هتلر، ذلك النمساوي الذي حصل على الجنسية الألمانية قبل أربع سنوات فقط، ذلك الإنسان الفنان الذي تحول إلى واحد من أكبر طغاة التاريخ. وعبر وسيط يعرف الاثنين انتظر تشرشل هتلر في ردهة أحد الفنادق ولكن الأخير حينما وصل إلى المكان لمح صاحبه من خلف الزجاج، فانقبضت نفسه، وانشغل بالحديث مع أحد قادة حزبه، وتردد ثم عاد أدراجه متظاهراً بأنه منشغل بحملته الانتخابية، ولم يلتق بتشرشل أبداً. عشية الحرب العالمية الثانية لم يكن أحد من الساسة الأوروبيين يرغب بأن يواجه الحقيقة وخطر النازية الصاعد على العالم الغربي. تغاضوا عن الوحش الذي كان يتخلق، في بيئة مفعمة بالإذلال والسخط ومجتمع مدمر بعد الحرب العالمية الأولى. كل الساسة في أوروبا كانوا يتجنبون المواجهة والإقرار بذلك، على رغم أن خطر النازية كانت ترتسم معالمه على الواقع وتكتمل أجزاؤه كل يوم على مرأى ومسمع منهم. كانت أوروبا مرهقة، ووجلة من أي استثارة للمشاعر القومية العدوانية عند الألمان، الذين كانوا يرزحون تحت الشروط القاسية لمعاهدة فرساي، كما أن غالب الملكيات والجمهوريات الأوروبية كانت شبه متواطئة، لأنهم رأوا في هتلر حائط صد في وجه الاتحاد السوفييتي، حيث كانت التنظيمات الشيوعية السرية، والتيارات الاشتراكية، تكتسح العالم الغربي وقتها، وتهدد الأنظمة. باستثناء صوت واحد، هو تشرشل الذي كان وقتها معتزلاً العمل السياسي، ومنشغلاً بالتأليف. قبل وصول النازيين إلى الحكم في عام 1933 تنبه تشرشل إلى الخطر الماحق في تلك العدوانية الشرسة التي كانت تستهدف اليهود في ألمانيا، حيث جعل النازيون من اليهود شماعة علقوا عليها كل المشاكل والأزمات الاقتصادية التي ضربت ألمانيا، وخصوصاً بعد الكساد الكبير عام 1928: أرى خلل الرماد وميض جمر... ويوشك أن يكون لها ضرام. ولكن لم يكن أحد يرغب بإثارة هذه القضية، لأن اليهود يومها لم يكونوا كما هم اليوم، لم تكن معاداة السامية يومها جريمة، وكان تشرشل هو رائد قومه وجيرانه الذي كان يأخذ بحُجُزهم، لتفادي الشر القادم. وعشية الحرب العالمية الثانية، رأى الجميع بوادر أعظم كوابيسهم، ولكنهم كذبوا عيونهم، وعقدوا اتفاقية سلام مع هتلر الذي كان يضمر ويخطط سراً لاجتياح أوروبا وليس فقط بولندا، اكتفى وقتها رئيس الوزراء البريطاني تشمبرلين بتطمينات ومجاملات من الألمان ووعود لا مصداقية لها، ولكن خطب تشرشل وتحذيراته، وكلماته التاريخية العظيمة بدأت تهز البريطانيين وتوقظهم من سباتهم ومن دوامة الخداع التي دفنوا أنفسهم فيها، وجاءوا بتشرشل قائداً للبحرية ثم رئيساً للوزراء. ألمانيا سمحت للنازيين مرة واحدة بأن يحكموها، ووصلوا عبر الصناديق، وكانت النتيجة حرباً عظمى، ثم اتخذت أوروبا كل التدابير لمنع وصولهم مرة أخرى. أما تشرشل فالتاريخ أعاد نفسه معه مرة أخرى. كما سيأتي.