د.عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين ظلت الهند طوال العقود الماضية تنظر إلى كل من الصين وباكستان كطرفين يهددان أمنها القومي وسيادتها ووحدة أراضيها. فكيفت سياساتها الداخلية والخارجية والعسكرية بطريقة تمكنها من مواجهة هاتين الجارتين اللدودتين. إلا أنه في السنوات الأخيرة برز تهديد جديد من داخل الحدود ممثلاً في الجماعات الماوية الراديكالية التي ما فتئت تسبب الصداع للحكومات الهندية المركزية والمحلية على حد سواء، وتهدد بالمزيد من المتاعب، إلى درجة أن رئيس الوزراء «مانموهان سنج» وصفها مؤخراً بالتهديد الأعظم الذي تواجهه بلاده، فيما راح خصومه ومنافسوه السياسيون يتساءلون عما إذا كان لدى الحكومة خططاً فعالة لمواجهة هذا الوباء الذي تسبب خلال العقد الماضي وحده في مقتل نحو 8000 مواطن. فما أصل هذه الجماعات؟ وماهي أهدافها؟ وكيف تعمل من أجل تحقيق طموحاتها؟ ومن أين تحصل على الدعم؟ ثم ما هي العوامل التي تجعل نيودلهي تشعر بالقلق منها؟ سنحاول هنا الإجابة على كل هذه الأسئلة وغيرها، خصوصاً أن الخوض فيها مفيد على ضوء ما شهدته الهند مؤخراً من عملية عسكرية ناجحة قام بها 500 عنصر من الميليشيات الماوية ضد قافلة للجيش الهندي انطلاقاً من معاقلها في غابات وأحراش ولاية «تشاتيسجار» الشمالية الغربية، وهي العملية التي قتل فيها العضو البارز في حزب المؤتمر الحاكم «ناند كومار باتيل»، وابنه «دانيش باتيل»، إضافة إلى «ماهيندرا كارما»، وهو قائد حركة مدنية تلاحق الماويين وتقتص منهم. يعود أصل هذه الجماعات الراديكالية المتمردة ضد السلطة المركزية إلى إندماج جماعة الحرب الشعبية (تنظيم شيوعي ماركسي لينيني) مع الحزب الشيوعي الهندي المركزي الماوي في عام 2004 وتشكيلهما لما صار يعرف بـ «حزب الهند الشيوعي الماوي»، وهو حزب غير معترف به بموجب قوانين مكافحة الإرهاب، ويقوده الأمين العام «موبالا لاكشمانا راو» الشهير بـ«كاناباتي»، ويضم تحت جناحه نحو 22 ألف مقاتل ومقاتلة، معظمهم من الفلاحين الأميين الجياع ممن استطاعت كوادر الحزب إقناعهم بأنهم يزدادون فقراً بينما المسؤولون يزدادون ثراء. أما أهداف الحزب المعلنة، فتتلخص في محاربة ما تسميه بالانتهازية والحركات التصحيحية داخل الأحزاب الشيوعية الهندية والعالمية، وتأسيس جماعات ثورية دائمة في أرجاء الهند، وخوض غمار حرب شعبية طويلة من أجل حماية حقوق الجماعات القبلية التي تسكن حزام الغابات في وسط الهند والحفاظ على ثرواتهم المعدنية التي يجري نهبها - بحسب الحزب -من قبل الشركات الرأسمالية الكبرى المتواطئة مع الدولة مثل «تاتا» و «إيسار». ورغم أن «كاناباتي» يحدد مصادر تمويل حزبه بما يتلقاه من تبرعات الأنصار والمحازبين، فإن هناك مؤشرات كثيرة تفيد عكس ذلك، وتقول إن الحزب يحصل على الأموال عن طريق الاتجار بالأفيون، وابتزاز الشركات العاملة في مناطق تواجد ميليشياته، والسطو المسلح على البنوك، وطلب الفدية مقابل إطلاق الرهائن. ولعل أطرف ما في «مانفيستو» الحزب، وهو الحزب الشيوعي الملحد الذي لا يعترف بالأديان كافة، أنه ينظر إلى حركات الجهاد الإسلامية وعمليات تنظيم «القاعدة» وما شابهه على أنها انتفاضات تحرر وطنية ضد الإمبريالية، وليست من قبيل ما يسميه الغرب بـ«صراع الحضارات»، بل ذهب أحد رموزه أبعد من ذلك حينما قال:«إن صحوة الجهاد الإسلامي يجب أن ندعمها ولا نقاومها لأنها موجهة بطبيعتها ضد الولايات المتحدة والإمبريالية». ومن هنا قيل إن أحد مصادر السلاح والتدريب للميليشيات الماوية الهندية هو جماعة «لكشر طيبة» الإسلامية المتطرفة العاملة ضد نيودلهي من الأراضي الباكستانية. أما المصادر الأخرى، طبقاً لبعض المراقبين، فيأتي على رأسها الحزب الشيوعي الماوي الفلبيني، أحد أطول الأحزاب الراديكالية تاريخاً في التمرد ضد حكوماتها في منطقة جنوب شرق آسيا، رغم نفي الأخير لأي تعاون مادي بينهما، وإنْ لم ينف الارتباط والتعاطف الأيديولوجي. صحيح أن الحكومة الهندية، نجحت في مناسبات عديدة في مطاردة هذه الميليشيات وسحق عناصرها وإحباط مخططاتها، عبر استخدام القبضة الأمنية، وتأسيس جماعات مدنية موالية لها للرصد والمتابعة والإبلاغ. وصحيح أنها تعمل من أجل تنمية معاقل تمركزها، كي لا تترك لها ورقة تستخدمها لتحريض السكان ضد السلطتين المحلية والمركزية، غير أن الصحيح أيضاً هو عدم وجود خطة منهجية متكاملة لدى نيودلهي، للرد على هذا التمرد المسلح، وما يمكن أن ينتج عنه من تداعيات. ولعل أكثر ما يقلق صناع القرار في نيودلهي، حيال هذا الملف يمكن تلخيصه في ما يلي: -استخدام الماويين لحرب العصابات القائمة على الكر والفر وسط الأدغال والأحراش الموحشة من تلك التي لا يمكن للجيش النظامي مواجهتها بسهولة. -إبقاء أجزاء واسعة من البلاد، ولاسيما ولاية تشاتيسجار الغنية بالمعادن (تحتوي على 19 في المئة و11 في المئة من إجمالي ثروة الهند من الحديد والفحم على التوالي)، في حالة من عدم الاستقرار وبالتالي الحيلولة دون استثمار ثرواتها المنجمية وأراضيها الزراعية الخصبة. -انتقال حالة التمرد ضد السلطات المحلية والمركزية إلى المزيد من الولايات، خصوصاً مع إقدام الماويين سراً في العامين الأخيرين على افتتاح فروع لتنظيمهم المحظور داخل ولايات جديدة. -الخوف من أن يؤدي استخدام السلطات الأمنية للعنف مع الميليشيات الماوية وأنصارها إلى إسالة المزيد من الدماء، وبالتالي دفع الناس للتعاطف معها ومنحها شرعية تفتقدها. -نجاح الماويين في استخدام وسائل الاتصال والمعلوماتية الحديثة من تلك التي تفوقت الهند فيها لخدمة أغراضهم، وفي مقدمتها السعي لتشويه وجه النظام القائم وتصويره بالنظام الطبقي الفاسد المنحاز للأغنياء والرأسماليين والمتماهي مع مخططات الإمبريالية الغربية، وخصوصاً في أوساط الأميين محدودي الإطلاع. - احتمال أن تستغل باكستان أو الصين أو الجماعات الإسلامية الجهادية حركة التمرد الماوية لتحقيق مصالحها المتعارضة قطعاً مع المصلحة الهندية العليا. فهناك مثلًا من يزعم أن ماويي الهند يتلقون دعماً خفياً من سدنة الماوية القدامى في بكين، انطلاقاً من نظرية أن كل ما يشغل الهند ويبدد مواردها، ويشتت جهودها يصب في صالح الصين في عملية تنافس القطبين الآسيويين اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً. - احتمال أن تغري النجاحات التي حققها الحزب «الماوي» النيبالي لجهة إسقاط النظام الملكي في كاتماندو في تشدد الميليشيات الماوية الهندية ومواصلتها لأعمالها العنيفة على أمل تحويل وهم إسقاط النظام الديمقراطي الهندي إلى حقيقة.