بعد توقيع الاتفاق النووي المدني بين الهند والولايات المتحدة في عهد بوش الابن، لم تعرف العلاقات بين البلدين أي لحظة مفصلية. وإذا كان الأمر قد تطلب ثلاث سنوات من أجل التوصل لاتفاق نووي، فإنه تطلب خمس سنوات أخرى لاتخاذ الخطوات التالية بسبب التأخير، الذي يقع من الجانب الأميركي بشكل رئيسي. ولذلك، فإن زيارة كيري إلى الهند، التي تعد الأولى له كوزير للخارجية الأميركية، حظيت باهتمام كبير في البلاد. والواقع أنه خلال السنوات القليلة الماضية لم تكن ثمة أولويات أميركية أخرى بخصوص السياسة الخارجية مع الهند حاضرة في المشهد، ولكن تباعد المصالح مازال موجوداً بين أكبر وأقدم ديمقراطيتين في العالم. ولذلك، فإن زيارة "كيري" شكلت بكل وضوح محاولة من الجانبين لضخ بعض الزخم في العلاقات الثنائية. "كيري" سعى بكل وضوح إلى تحديد مسار لتعزيز العلاقات الثنائية التي يرى الكثيرون أنها انحرفت عنه خلال الآونة الأخيرة؛ غير أن وزير الخارجية الأميركي الجديد أمامه مهمة صعبة تتمثل في خلافة هيلاري كلينتون التي كانت تتمتع بشعبية كبيرة. وقد شكلت زيارة "كيري" إلى الهند جزءاً من جولته الدولية التي شملت عدداً من البلدان في آسيا والشرق الأوسط. وفي محطته الهندية، أجرى كيري محادثات مع نظيره الهندي سلمان خورشيد في إطار الحوار الاستراتيجي الأميركي- الهندي السنوي الرابع في نيودلهي، محادثات نجح فيها الجانبان في الاتفاق حول تحديد بعض المواعيد النهائية، ومن ذلك تلك المتعلقة بإنهاء الخطوات المتبقية نحو السماح للشركات الأميركية بإنشاء محطات نووية في الهند. ويشار هنا إلى أن التعاون في هذا الباب كان معلقاً بسبب عدم رغبة الهند في تخفيف قانون السلامة النووية الذي يفرض شروطاً صارمة على الشركات، التي تدير المحطات في حال وقوع حادث نووي. قانون وصفته الشركات الأميركية إلى جانب شركات غربية أخرى بأنه تمييزي. وبالمثل، فإن الأهداف الهندية والأميركية بخصوص أفغانستان لا تلتقي أيضاً، ذلك أنه إذا كانت الولايات المتحدة حريصة على عقد مفاوضات مع "طالبان" التي فتحت مكتباً لها في العاصمة القطرية الدوحة، فإن الهند حذرت من خطر التفاوض مع هذه الحركة. والأكيد أن الهند لا يعجبها ما يجري، غير أنه لا يسعها إلا الاعتراض بالنظر إلى أنها لا تملك حلاً للوضع الأفغاني المعقد. كما أن دورها ثانوي لأنها ليست لاعبا أمنياً في ذلك البلد. غير أن "كيري" حاول تهدئة بواعث القلق الهندية عبر القول إن الولايات المتحدة لا تنوي الاستمرار في مساعدة أفغانستان فحسب، وإنما الإبقاء على القوات الأميركية في ذلك البلد "تحت أي ظروف" بعد 2014. كما قال في محاولة لطمأنة الجانب الهندي إن ثمة بعض الخطوط الحمراء التي ستضعها الولايات المتحدة في عين الاعتبار أثناء حوارها مع "طالبان". ورغم أن بدء المفاوضات أغضب الرئيس الأفغاني حامد كرزاي، فمن الواضح أن الولايات المتحدة تحاول الآن التأكيد على فكرة أن مبادرة الحوار مع "طالبان" هي مبادرة يقودها الأفغان كليا. كما أنه من الواضح أن ثمة محاولة من الجانب الأميركي لزيادة الانخراط الأميركي مع الهند عقب بعض التوتر الذي شاب العلاقات بين البلدين بسبب نزاعات تجارية، وغياب التقدم بشأن الاتفاق النووي الهندي- الأميركي، وإدخال الولايات المتحدة مؤخراً قوانين هجرة صارمة تضر بصناعة البرمجيات الهندية. وقد اعترف كيري خلال هذه الزيارة بوجود مجموعة كاملة من المواضيع التي تحتاج إلى النقاش والمعالجة. والأكيد أن اعترافه بالمواضيع الخلافية بين الجانبين، وخاصة تلك المرتبطة بالتعاون الاقتصادي، لا تترك مجالا للشك بوجود شعور مشترك بانحراف العلاقات الثنائية عن مسارها وغياب الاتجاه في الوقت الراهن. وإذا كان الهنود يشتكون من الإجراءات الحمائية في الولايات المتحدة، فإن الشركات الأميركية تشتكي بدورها من العراقيل والعقبات لدخول السوق الهندية. كما تشتكي الصناعة الأميركية من السياسات الاقتصادية للهند وكيف أنها تؤثر على التجارة والاستثمارات الأميركية. وفي هذا الإطار، طلبت بعض الشركات الأميركية من إدارة أوباما في الآونة الأخيرة الضغط على الهند بخصوص سياسات تقول إنها تضر بالصادرات والوظائف الأميركية، علماً بأن هذه الشركات كانت أفضل أصدقاء الهند لدى الإدارة الأميركية. وفي رسالة وجهتها إلى أوباما في وقت سابق من هذا الشهر، طلبت 17 شركة من الولايات المتحدة التنسيق مع الاقتصاد الأوروبي والاقتصادات الأخرى، منتقدةً الهند لإلحاحها على الإنتاج المحلي للعديد من المنتجات، وحقوق الملكية الفكرية، وتوفير براءات الاختراع التي تشمل الحكم الأخير للمحكمة العليا الهندية الذي يرفض براءة اختراع شركة الصيدلة متعددة الجنسيات "نوفارتيس". كما يقول المشرعون الأميركيون إن على الحكومة الهندية أن تنهي ما يزعمون أنها ممارسة تصديرية تمييزية. غير أنه رغم كل ذلك، فإن تركيز وزير الخارجية الأميركي حين زار الهند كان منصباً أكثر على الصين وروسيا، حيث عبَّر "كيري" عن إحباطه، في وقت كان يقوم فيه "إدوارد سنودن"، المطلوب لقيامه بتسريب وثائق حول برامج مراقبة أميركية، بالسفر عبر العالم، بعيداً عن قبضة واشنطن. وانطلاقاً من التراب الهندي، وجه "كيري" تحذيراً لبكين وموسكو من تداعيات السماح لمسرب الوثائق الأميركي بالسفر من هونج كونج إلى روسيا على العلاقات مع بلده، واصفاً عدم قبول الطلب الأميركي بتسليمه بأنه "مثير للقلق". وبوصفه الهند بأنها "شريك مهم" لسياسة الولايات المتحدة بخصوص "إعادة التوازن" في آسيا، فإن كيري كان يلمح ربما إلى أن الصين مازال لها دور بالنسبة لانخراط الولايات المتحدة مع الهند.