المشهد المصري غير مسبوق في تاريخ السياسة العربية، الملايين في الشوارع تطالب برحيل الرئيس مرسي، عزم وإرادة وتصميم وانضباط، كلمة واحدة، شعار واحد، هدف واحد. إدارة واحدة، رؤيا واحدة. مفاوض واحد باسمهم في لحظة القرار، والعلم واحد هو علم مصر، الحدث فرض نفسه في الداخل والخارج. لا يدعيّن أحد أنه كان قادراً على توقـّع ما يمكن أن يحصل حتى الذين سمّوا ما جرى انقلاباً عسكرياً في نهاية المطاف ليس بإمكانهم التأكيد أن هذا ما كان مقرراً عن سابق تصور وتصميم، التحرك الشعبي المصري فرض نفسه على الجميع، على كل قادة الدول في العالم، على كل أجهزة المخابرات الدولية. لم يكن ثمة من هو قادر على الحسم لناحية الوجهة التي سيذهب إليها هذا التحرك، كان ثمة قلق وخوف من فلتان أمني وفوضى وعنف، من حرب حقيقية، من تفكك في لحظة معينة، من تراجع أو سقوط في بازار المناورات والمفاوضات والعروضات التي جاءت من جهات عديدة دولية وإقليمية وداخلية. المعارضة المصرية استمرت على موقفها ونجحت في خيارها والسند الأساس كان الجيش الذي أدرك حجم التحرك وصلابة الإرادة، وأنقذ البلاد بانحيازه إلى المطالب الشعبية ودعوته الجميع إلى المشاركة في إنقاذ مصر. وفي الإخراج، وبعد القرار الذي اتخذه الجيش كان كل شيء مدروساً وفي مكانه. مشاركة شيخ الأزهر وبابا الأقباط وحزب «النور» السلفي ومحمد البرادعي ممثلاً للمعارضة، في مناسبة الإعلان عن خريطة الطريق، أكدت الوحدة المصرية والحرص على التنوع في داخلها. هي مصر، لا تريد تطرفاً أو مذهبية أو طائفية. مصر، دولة المؤسسات العريقة، وعلى رأسها الجيش والقضاء. مهما قيل عن الترهّل والفساد ثبت دور هاتين المؤسستين الوطني. نعم، قبل عزل الرئيس مرسي، كان قد اصطدم بالجيش، وأراد وضع اليد عليه ولم ينجح، أراد المواجهة مع القضاء وسن قوانين للسيطرة على مفاصل القرار فيه، ولم ينجح لأن غالبية القضاة تصدّت لهذا التوجـّه، وتصرفت على قاعدة تكريس دور القضاء العادل غير المستخدم في هذا الاتجاه أو ذاك. ثبت أن ثمة رجالاً كباراً قادرين، ومن خلال مؤسسات الدولة على صون المستقبل. نعم، لا دولة قادرة على الاستمرار دون جيش وطني متماسك قوي لا ينحاز ولا ينحرف في اتجاه هذا أو ذاك في اللعبة السياسية الداخلية ودون قضاء يحمي الدولة ومؤسساتها والمواطنين ومصالحهم. ولفتني مقاربة لزميل إعلامي قال فيها: في عام 1952 انحاز الشعب إلى الجيش، وفي عام 2013 انحاز الجيش إلى الشعب. لقد عجّل الرئيس مرسي سقوطه، فالسنة الأولى والأخيرة من عهده تميزّت بالإرباك والتردّد والتخبط. الثابت الوحيد كان: التمسك بالسلطة على المستوى الشخصي وعلى مستويات ما يمثل بينما كانت مصر تنزلق تدريجياً نحو المزيد من الفقر والانهيار الاقتصادي والاجتماعي. وهذا أبرز أسباب الثورة الأولى ولاحقاً الثورة الثانية لإنقاذ إنجازات الأولى، الشعب المصري يريد لقمة العيش وفرصة عمل وحرية وكرامة، لا يريد خطابات وبيانات ومشاكل إضافية وفوضى واستبدال استبداد بآخر، وهيمنة بأخرى، وتحكم بآخر، ويريد حياة ثقافية فنية ميـّزت مصر عبر تاريخها، هي حياة الفكر والإبداع والتطور والانفتاح والنقد الساخر الظريف الجميل المميز. لم يحتمل الشعب المصري كل محاولات التقييد والانغلاق والفلتان والاغتصاب والإرهاب والتحرش في الشوارع، مصر أكدت هويتها وميزتها. وأعطت نموذجاً للعالم غير مسبوق في تاريخنا كما قلنا، الشعب المصري أدهش العالم في لحظة تمر فيها أمتنا كادت تتبدّد فيها الآمال. المهم الآن استكمال ما جرى، تنفيذ بنود خريطة الطريق، عدم الانزلاق إلى العنف مهما كلف الأمر، حماية المسار الديموقراطي، الابتعاد عن سياسة الانتقام والثأر والاستئصال «والاجتثاث» على الطريقة العراقية مثلاً. المهم عدم الانفعال والتهور والاندفاع في خطوات غير مسبوقة، وينبغي الاستفادة من موقف المؤسسة العسكرية والرئيس المؤقت والبيئة التي جاء منها لتأكيد دور الدولة وتفعيل عمل مؤسساتها في خدمة كل أبنائها. لن تكون المهمة سهلة أبداً، ثمة في المحيط من لام بما جرى، وثمة من هو قلق، وفي الخارج يشعر البعض بأن الأمور خرجت من يده، وأكبر كذبة ومثال في هذا المجال السياسة الأميركية التي انحازت منذ البداية لمرسي، واعتبرت أنه خيار ديموقراطي ورئيس منتخب على لسان السفيرة في القاهرة، ولم تبدِ ارتياحاً لتحرك الشارع المصري، ومعروف أن هذه السياسة أنتجت ديكتاتوريين وأباطرة وأنظمة قمعية في العالم لا مثيل لها. سيكون لأميركا دورها، وكذلك لدول عديدة ومتابعتها في مجرى الأحداث في مصر، ولا ننسى إسرائيل ومصالحها وحساباتها، وإيران وامتداداتها. مصر مقبلة على تحولات كبيرة، وقد تواجه أحداثاً خطيرة، ما جرى سيكون له تأثيره على كل المنطقة من سوريا إلى إيران والمغرب العربي وصولاً إلى العالم الإسلامي وحسابات الدول الكبرى وأوروبا وأفريقيا. نحن في بداية طريق جديد آمل أن يكون آمناً، ثمة من سيحاول تخريب ما جرى من الداخل ومن الخارج، هذا طبيعي، المهم استخلاص الدروس والعبر منه ومما سببّه للاطلالة على المرحلة المقبلة. وتبقى قضية، هي فلسطين، ما جرى يجب أن يعيد إليها أهميتها ودور مصر فيها، ويبقى سؤال للمعارضة السورية: هل آن أوان توحيد صفوفها لاستكمال معركتها والاستفادة من تجربة المعارضة المصرية، وتأكيد وحدة الانتماء والتنوّع، أم ستترك الفرصة للنظام للاستفادة ولو إعلامياً مما جرى؟