لطالما ارتبطت القارة الأفريقية في الأذهان بالفقر والجوع والحروب الأهلية، أو غير الأهلية، والدماء والدموع، ولكن الكتاب الذي أصدرته مجموعة كبيرة من المؤلفين الأفارقة هذا العام تحت عنوان «أفريقيا الآتية» يسعى لزحزحة معظم هذه الصور النمطية السلبية السارية عن القارة السمراء، المتجذرة في المخيال الغربي، إن لم يكن العالمي، وذلك لأن القارة بقدرما هي مثقلة بأعباء الماضي، وجراح الذاكرة النازفة، تبدو الآن متحفزة مقبلة على مباهج العولمة، منخرطة في شراكات اقتصادية وتنموية واسعة، مع أكبر القوى العالمية الراهنة، ولذلك يتسابق على أسواقها ومواردها، بل وعلى خطب ودها، المتسابقون من صينيين وهنود وأميركيين وأوروبيين، وغيرهم كثير. ولئن كانت الدول الوطنية الحديثة قد ولدت في القارة من رحم المعاناة وعانت طويلاً من اجترار تجارب الفشل والإخفاق وعدم الاستقرار، فقد ظلت الأرض الأفريقية ذاتها مليئة بالموارد، والشعوب مفعمة بالطاقة، ما يعني، استطراداً أن الشروط اللازمة لأي إقلاع اقتصادي وتنموي، موجودة من حيث المبدأ، ولا ينقص سوى مزيد من حسن استغلال كافة مقدرات المعادلة الأفريقية الكامنة، والاشتغال عليها بحسابات الأرقام، وطاقة الأحلام. وهذا الكتاب الواقع في 256 صفحة يضم بين دفتيه نصوصاً كثيرة كتبها ستة وعشرون كاتباً وأديباً أفريقياً من مختلف الأجيال، ومن عدد كبير من البلدان تمتد من مصر والجزائر إلى جنوب أفريقيا، ومن السنغال إلى جيبوتي وزنجبار، ولا يقف تنوع محتوياته عند هذا الحد فحسب، بل يمتد أيضاً إلى طبيعة فصوله، التي تراوح بين المقالة السياسية والأدبية والنصوص الإبداعية، الحالمة بأفريقيا مختلفة، أفريقيا ناهضة، قادرة على الانخراط في السباق الدولي خلال العقود المقبلة من القرن الحادي والعشرين. إنها أفريقيا الأخرى، أفريقيا القابعة في أحلام الشعراء والمبدعين، وتطلعات الحالمين، الذين يتسللون هنا قدماً على رؤوس الأصابع عارضين رؤاهم الاستشرافية وقراءاتهم في عناوين المرحلة المقبلة، ساعين للتبصير والتنظير لكيفية صناعة المستقبل، وبناء الذات الأفريقية من جديد، على أسس أصلب وأمتن وأقوى وأكثر قابلية للاستدامة. وقبل التنظير للمستقبل لا يغفل مؤلفو الكتاب أيضاً تسجيل صفحات من ماضي أفريقيا الأليم، خاصة أن معظمهم ولدوا في مرحلة ما بعد الاستقلالات، وبعضهم يعيش في المنافي، كما أن من ضمنهم أيضاً من فرضت عليه الذاكرة الجريحة تسجيل بعض أشد المحن الأفريقية المعاصرة فظاعة كمجازر الإبادة الجماعية التي عرفتها رواندا في سنة 1994 مثلاً، وكذلك فظائع نظام التمييز العنصري السابق في جنوب أفريقيا. ولكن المؤلفين لا يرتهنون أيضاً لتقليب صفحات الماضي، بقدرما يلتفتون نحو المستقبل، لأن هذه اللحظة هي لحظة الحلم الأفريقي الكبير. حلم قارة سمراء كاملة أعادت الآن اكتشاف مكامن قوتها، وقدرتها على الإقلاع نحو المستقبل الواعد والاستفادة من مباهج الاقتصاد العالمي، خاصة بعدما أخذ قطار عدد كبير من دول القارة يسير على سكة التنمية بوتيرة أسرع، وبثقة أكبر في إمكانية صناعة الفارق وتحقيق الإنجاز. وفي سياق انطلاقة الحلم الأفريقي هذه تنخرط دول القارة الآن في شراكات واعدة، وفي ظروف تختلف من شريك لآخر، ومن بلد أفريقي إلى آخر أيضاً، مع أهم الاقتصادات العالمية، وليست زيارة زوباما الأخيرة للقارة، والتدافع بين الدول الغربية والصين على خلفية دورها في القارة سوى مؤشر على بداية تنافس دولي كبير في خطب ود القارة، والتسابق على المساهمة في بناء اقتصاداتها، والاستفادة من خيراتها. كما أن هنالك أيضاً لاعبين كباراً آخرون يسعون جاهدين لاقتطاع جزء من كعكة الأسواق وورشة المشروعات الأفريقية الواسعة الراهنة، وفي الذهن هنا خاصة، بالإضافة إلى الصين، بقية الدول البازغة ذات الاقتصادات الصاعدة، المعروفة اختصاراً باسم «البريكس»، كالهند والبرازيل وروسيا، وهي ذات المجموعة التي تشمل أيضاً دولة من دول القارة هي جنوب أفريقيا، ولذلك إشارة رمزية اقتصادية، مهمة في حد ذاتها، لجهة دلالتها على إمكانية لعب دول القارة أدواراً رائدة مستقبلية في الاقتصاد العالمي، وعلى المسرح الدولي ضمن لعبة موازين القوى وصناعة القرار والتنمية والازدهار. حسن ولد المختار -------- الكتاب: أفريقيا الآتية المؤلف: مجموعة مؤلفين الناشر: Hoëbeke تاريخ النشر: 2013