عندما يُتداول اسم الهند في المحافل الدولية، دائماً ما يشار إليها بالبنان كأكبر ديمقراطية في العالم استطاعت بفضل آلياتها الانتخابية الحفاظ على لحمة بلد قاري كبير بعرقيات عديدة وديانات مختلفة. لكن المنجز الديمقراطي الهندي الباهر الذي تحول إلى نموذج عالمي، لم يفلح في تذليل التحديات الجسيمة، لاسيما تلك المرتبطة بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية للبلد وإحداث التحولات الكبرى في الثقافة الهندية للتخفيف من وهدة الفقر والاختلالات الاجتماعية المزمنة. هذا الإخفاق في تحويل المنجز الديمقراطي إلى نجاح اقتصادي واجتماعي، هو ما يتطرق إليه كتاب «مجد غير مؤكد... الهند وتناقضاتها»، لمؤلفيه الخبيرين الاقتصاديين «أمارتيا سين» و«جون ديريز». فالهند التي أمضت ستة عقود متواصلة من حياتها السياسية في كنف الانتخابات المنتظمة وفي ظل حرية التعبير وحكم القانون، يظل سجلّها التنموي هزيلا بالنظر إلى الإخفاقات الكبيرة في مجالات الصحة والتعليم وبقية الخدمات التي لم تسعف الشعب الهندي الفقير في الاستفادة من منجزه الديمقراطي وترجمته إلى واقع تنموي يفيض عليه بالخيرات، كما بقية الديمقراطيات العريقة في العالم. ويتساءل الكتاب: إذا كانت ديمقراطية الهند إحدى مكتسباتها المهمة، فلماذا الهنود يعيشون حياة بائسة؟ ولمن يشكك في هذا الطرح، يورد الكتاب عدداً من المؤشرات الاجتماعية التي تثبت اختلال البنية الاجتماعية للمجتمع، والنقص الذريع في التنمية الاقتصادية. فمثلا عاشت الهند الصيف الماضي على وقع انقطاعات شاملة للتيار الكهربائي عمت مناطق البلاد، وأغرقت المواطنين في ظلام دامس، وهي مشكلة مستمرة حتى اليوم، حيث يعاني 400 مليون هندي انقطاع الكهرباء. أما المرافق الصحية فشبه منعدمة، لاسيما في الولايات الشمالية، حيث تشير الإحصاءات إلى أن نصف سكان الهند ما زالوا يقضون حاجتهم في الخلاء، ما يتسبب في بعض الأمراض، مثل الكوليرا وغيرها، كما أن تطعيم الأطفال في الهند لم يرتقِ للمستوى المطلوب، إذ تظل نسبة انتشاره أقل منها في الدول الأفريقية جنوب الصحراء، فيما معدلات الجوع لدى الأطفال الهنود تصل إلى 43 في المئة. وبينما تتزايد معدلات السمنة لدى القلة القليلة من الأغنياء، تعاني أعداد عريضة من الهنود سوء التغذية. ورغم المكتسبات الأخيرة في مجال الحد من الفقر، يظل الحرمان منتشراً على نطاق واسع ووفيات الأمهات عند الولادة هي الأعلى في العالم. وتفاقم من هذا الوضع المعتقدات الاجتماعية والميول الثقافية التي تنحاز إلى المواليد الذكور. لكن ما السبب الذي يجعل الهند، رغم تجربتها الديمقراطية الرائدة وهوامش الحرية والتعددية الواسعة التي تتمتع بها، مقصرة في النهوض بالأعباء التنموية؟ يجيب الكتاب بأن الخلل يكمن في النخب الهندية، التي وإن كانت ديمقراطية، فإنها ما زالت أسيرة النظرة الاستعلائية تجاه المجتمع، والتي تكرسها الثقافة السائدة والتفاوتات الدينية والطبقية المستحكمة. هذا الواقع المتسم بالفوارق الصارخة بين أفراد المجتمع وطوائفه المختلفة، بالإضافة إلى الفوارق الأخرى ذات البعد الاقتصادي بين أغنياء القوم وفقرائهم، تحدث شروخاً مجتمعية عميقة تعيد إنتاج نفسها على مر الأجيال، والنتيجة أن النخبة لا تهتم كثيراً لمصير الفقراء ولا تسعى لتطوير الخدمات الصحية والتعليمية. ومع أنه يفترض بالديمقراطية أن تسهم في تحقيق معدلات نمو مرتفعة، لارتباطها بالشفافية والمحاسبة، ولوجود آليات رقابية وتصحيحية يتيحها الفصل بين السلطات، وهو بالفعل ما حصل في بلدان ناشئة مثل البرازيل، حيث ظلّت الديمقراطية الهندية عاجزة عن تحقيق النمو الفعّال، رغم تصاعده في السنوات الأخيرة لتظل مشاكل الهنود الاجتماعية هي نفسها على مر الزمن دون تغيير كبير، بل بات الإخفاق التنموي عبئاً ثقيلا على العملية الديمقراطية ذاتها التي تنوء تحت ضغوط اجتماعية كبيرة تهدد بتفجيرها. ولعل ما يدعو للقلق الوضع الصحي المقلق في الهند، حيث لا تخصص الحكومة في إطار نفقاتها السنوية على صحة الفرد أكثر من 39 دولاراً في العام مقارنة بالبرازيل التي يصل الرقم فيها إلى 483 دولاراً، ما يترك ملايين الهنود خارج نطاق الخدمات الصحية المعقولة، وعرضة للإهمال والمرض. ولا يختلف الأمر في قطاع التعليم الذي يعاني تدهوراً خطيراً، حيث أظهرت دراسة أن نصف المدارس الحكومية لا تقدم أي خدمة تعليمية. ورغم الصعوبات والإخفاقات، يختم المؤلفان كتابهما بنبرة تفاؤلية ترى أن النخبة الهندية قادرة على تغيير أسلوبها في العمل فقط لو توافرت القيادة الجيدة وفُعّلت آليات الرقابة والمحاسبة. زهير الكساب -------- الكتاب: مجد غير مؤكد... الهند وتناقضاتها المؤلفان: أمارتيا سين وجون ديريز الناشر: آلن لين تاريخ النشر: 2013