في تأكيد على المقولة التي ترى أن الإرهاب ليس فعلًا فحسب، وإنما هو بالأساس نتاج فكر منحرف يجب التصدّي له، يقول الدكتور عبدالحميد الأنصاري في كتابه الذي نعرضه هنا، وعنوانه «ثقافة الكراهية»، إن موجات الفكر المتطرف التي عانتها المجتمعات الإسلامية بعامة والعربية بخاصة، إنما يجمعها فكر واحد هو فكر الغلو والتشدد والكراهية. ويتساءل الأنصاري في هذا الكتاب حول مصير التسامح الإنساني، من خلال النظر في المحصلة الكلية لفكر الكراهية، والبحث في جذوره وروافده، قبل أن يتطرق إلى «مستقبل التسامح في مجتمعاتنا». وكما يوضح الكتاب، فإن العنف الذي شهدته وتشهده المجتمعات العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وما صاحبه من فكر متطرف معاد للتقدم ومناهض للحياة على وجه العموم، مردّه إلى ثلاثة تيارات سياسية ودينية نجحت في غزو الثقافة المجتمعية المتسامحة، وهي: التيار الديني التكفيري الذي يمثّل فكراً إقصائياً قمعياً يشكك في معتقدات الآخرين ويتهمهم بالانحراف والضلال. وتيار الإسلام السياسي المسكون بهواجس التآمر العالمي، والذي يقدّم نفسه باعتباره المدافع الوحيد عن الإسلام وحامي حمى الهوية الإسلامية. وأخيراً التيار القومي (الناصري والبعثي) القائم على فكر يعتقد بأن الغرب العدو الذي عوّق نهضة العرب برسمه الحدود القِطْرية ودعْمه إسرائيلَ، وهو فكر يحتكر «الوطنية» ويخوّن المختلفين معه سياسياً. ويعتقد الكاتب أن التفاعل بين تلك التيارات الثلاث، أفرز ثقافةً متعصبة متطرفة هي «ثقافة الكراهية» ضد الآخر المخالف، سواء أكان وطنياً أم أجنبياً. أما «ثقافة الكراهية» ذاتها فهي توليفة من عنصرين: التكفير والتخوين، حيث يقوم «الديني» بالتكفير، بينما يقوم «القومي» بالتخوين، وذلك استناداً إلى ادعاء شمولي يحتكر الدين والوطنية. وزيادةً في توضيح المفهوم، يبين الكاتب أن «ثقافة الكراهية» تخاطب الجانب الغرائزي والانتماءات الأولية في الإنسان، مثل القبلية والطائفية والقومية الضيقة، وتغذي مشاعر البغضاء فيه. وإلى ذلك فهي محصلة لكل الصفات والعناصر السيئة التي تشكل أساساً للتفريق بين الناس؛ مثل التعصب والتطرف والطبقية والإقصاء والتخوين والتكفير والاستعلاء. لكن الكراهية في أغلب حالاتها «وسيلة عجز»، كما ينقل المؤلف عن الباحث السعودي الدكتور راشد المبارك، الذي يرصد هذه الظاهرة عند المسلمين في مستويين: الأول علاقة المسلم بمُثله، والثاني علاقته بالآخر. وينقّب المبارك عن جذور الكراهية ضد الآخر في الحروب الصليبية، والاستعمار، ومواقف الغرب الداعمة لإسرائيل، قائلًا إن هذه الينابيع قد تكفي لسقي بذرة الكراهية واستدامتها لو كانت الكراهية وسيلة ذكية، لكنها ليست كذلك مطلقاً! أما الأنصاري، فيرى أن «ثقافة الكراهية» أصيلة وممتدة في تراثنا وتاريخنا منذ أيام الخوارج القدامى، ولا يمكن تفسيرها بالعامل السياسي، الدولي أو المحلي، إذ لسنا الأمة الوحيدة التي عانت ولا تزال تعاني مظالم الغرب، بل هناك شعوب ضُربت بالقنبلة الذرية وتعرضت للتدمير والتنكيل، لكنها لا تحرّض أبناءها على معاداة الغرب، ولا تشحنهم بثقافة الكراهية. وهنا يستشهد المؤلف بسيد قطب وكتابه «معالم في الطريق»، والذي يراه تجسيداً لثقافة الكراهية في أبشع صورها، كما يعتبره امتداداً طبيعياً لمضامين متشددة أخرى، حملت بذوراً جنينية متطرفة. ويصل الأنصاري من ذلك المثال إلى أن «أبناء ثقافة الكراهية هم تلاميذ أوفياء لخطاب ديني وثقافي مشحون بكمٍّ هائل من الكراهية للحضارة الغربية وقيمها ونظمها ومفاهيمها، وهو خطاب ديني متشدد تم بثه عبر سنوات طويلة». أما الجذور والروافد التي غذّت ثقافة الكراهية في مجتمعاتنا ورسّختها، فيرى الكاتب أنها تتصل جميعاً بأوهام «الاستعلاء» على الآخرين، ومنها التعصب (الديني والمذهبي والقومي والفكري والأيديولوجي والعنصري...)، الإقصاء (الثقافة التراثية ثقافة إقصائية للآخر)، الخطاب الإعلامي (تعبوي دعائي، محرض على كراهية المخالفين)، الخطاب الديني (العصي على التغيير والإصلاح، والمأخوذ بهواجس المؤامرة العالمية ضد الإسلام)، الخطاب السياسي الأيديولوجي (لوم الآخر وتحميله سوء أوضاعنا)، التوظيف السياسي للدين (لنزع الشرعية أو لاكتسابها)، والتمييز ضد المرأة (في مختلف العصور الإسلامية). ويتساءل الكاتب: كيف تستطيع مجتمعاتنا تجاوز «ثقافة الكراهية» وتكريس «ثقافة التسامح»؟ ليطالب بإعادة النظر في المفاصل الأساسية الحاكمة لثقافة المجتمع، ومنها: المفصل التربوي، المفصل التعليمي، المفصل الديني، المفصل الإعلامي، المفصل التشريعي... فمن خلال هذه المفاصل يمكن إعادة الاعتبار إلى مفهوم «المواطنة» وتفعيله على أرض الواقع، كصمّام أمان ضد توالد «ثقافة الكراهية» وانتشارها. محمد ولد المنى -------- الكتاب: ثقافة الكراهية المؤلف: د. عبدالحميد الأنصاري الناشر: دار مدارك للنشر تاريخ النشر: 2012