تعد الهيمنة العالمية طموحاً حديثاً نسبياً بالنسبة للأمم. ولقد شهدت أوروبا العديد من الحروب الدينية والإيديولوجية، وكان معظمها ذا طابع ديني، وهي التي انتهت بمعاهدة ويستفاليا التي أسست لنظام سيادة الدولة، والحروب التي أعقبت انتصار الثورة الفرنسية وانتهت بهزيمة نابليون في معركة واترلو، وقرارات مؤتمر فيينا لعام 1815. ولم يُكتب للسلام المنشود أن يسود العالم بعد عام 1815، ولكن تم الاعتراف بأن السلام يعتبر مصلحة مشتركة بين القوى الأوروبية الكبرى. ولقد كانت صراعات القرن التاسع عشر التي تصاعد فيها النزاع الفرنسي الألماني تدور حول السلالات، أو أنها عكست ظهور النزعة القومية داخل الدولة العثمانية ونظام حكم أسرة هابسبورغ، لتمهد بذلك الطريق لما سيأتي من أحداث في القرن العشرين. وكان هناك استقرار نسبي في أوروبا قبل عام 1914، وهو الذي لم ينعم به العالم مرة أخرى حتى حلّت فترة الاستقرار الذي خلقته الحرب الباردة، بثنائيتها القطبية. ولم تكن الحرب الباردة تبدو في ظاهرها وكأنها تمثل "سلاماً بارداً" بالنسبة لأولئك الذين عايشوا تلك الفترة، ولكن هذا هو ما كان عليه الحال. وقد خاض الشيوعيون من جهة، وأميركا وحلفاؤها من جهة أخرى، حروبهم الأيديولوجية في آسيا بالوكالة، ما أرعب واشنطن التي رأت أن الأيديولوجية الشيوعية تمثل برنامجاً عدوائياً يمكنه أن يكتسح آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا. وكان هذا أشبه بجنون العظمة إلا أن هنري كيسينجر وريتشارد نيكسون ومن أتى بعدهما، كانوا يحاولون تأسيس أو دعم الديكتاتوريات المناهضة للشيوعية في الأرجنتين ونيكاراغوا والبرازيل وأفريقيا الجنوبية وتايوان وإندونيسيا وإيران والعراق وفي منطقة البحر الكاريبي حتى ثمانينيات القرن الماضي. وكان المنظّر كينيث وولتز (توفي في شهر مايو الماضي) المتخصص في العلاقات الدولية محقاً حين قال إن الحرب الباردة خلقت استقراراً، وإن انتشار الأسلحة النووية في العالم غير الغربي يمكن أن يسهم في تهدئة العلاقات الدولية. ولقد أثبتت الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب الباردة أنها غير كافية كما قال «وولتز» عام 2011 في مقابلة شفهية نظمت في جامعة كالفورنيا في بيركلي عندما كان يتحدث حول تاريخ فترة الأحادية القطبية التي أعقبت نهاية الحرب الباردة. وقال إن الولايات المتحدة (تسيء استخدام قوتها عندما تستفرد بالدول الضعيفة والفقيرة وتعتدي عليها.. هذا هو ما نحن متخصصون فيه). ولكنّ البروفيسور «وولتز» آثر أن يتجنّب في حديثه في تلك المقابلة الإشارة إلى أن هذه السياسة لم تكن ناجحة منذ منيت دول مثل فيتنام والعراق وأفغانستان بأسوأ ما يمكن أن تفعله أو تريد أن تفعله الولايات المتحدة بها. كما واجه هذه السياسة الكثير من التحدي في مناطق أخرى مثلما حدث في باناما وغرانادا وفنزويلا وكوبا. وستُفرز هذه الهيمنة الدولية، أنظمة ذات طابع ديمقراطي وهمي في كل مكان، ويمكنها أيضاً أن تستأصل نزعة التعصب الديني الإسلامي. ولطالما كانت هذه الأهداف بطبيعتها صعبة التحقيق بالوسائل العسكرية أو السياسية، وهذا ما أثبته التاريخ مراراً وتكراراً. ولا يحتاج المرء لأن يكون منظّراً في الواقعية الأكاديمية السياسية مثل البروفيسور «وولتز» حتى يتمكن من إدراك هذه الحقيقة، بل يكفي أن يكون إنساناً عادياً يحتكم إلى أبسط مفاهيم الحس السليم. والآن وبسبب موقف أخلاقي من قضية إدوارد سنودن، أصبحت إدارة أوباما أضحوكة في نظر بعض طلاب المدارس الثانوية الذين تركوا مقاعدهم ووقعوا في هوس الكمبيوتر. وكانت مشكلة سنودن تكمن في أنه لا يعتقد أن على الولايات المتحدة أن تعترض أنظمة الاتصالات الخاصة بأصدقائها ولا حتى تلك الخاصة بأعدائها. ويضاف إلى ذلك أن المواطنين الأميركيين ذاتهم يتمتعون بحق عدم انتهاك خصوصياتهم بموجب المادة الرابعة من الدستور التي تنص على أن "من حق المواطنين أن يكونوا آمنين ومطمئنين على أنفسهم ومنازلهم ووثائقهم وممتلكاتهم ضد أي تفتيش أو مصادرة من دون سبب وجيه". ومن المتوقع أن تمارس الولايات المتحدة كل الضغوط والوسائل التي في حوزتها لاعتقال سنودن كما تفعل لاعتقال المواطن الأسترالي جوليان آسانج، وكما فعلت مع سجين الرأي برادلي مانينج الذي تم إخضاعه لعقوبة قاسية غير دستورية وغير عادلة قبل محاكمته، كما تم حرمانه من حقه الذي تحفظه له المادة السادسة من الدستور "بمحاكمة سريعة وعلنية من قبل هيئة محلفين غير منحازة". ويبدو أن نتيجة انتخابات عام 2012 تقررت بشكل حاسم بسبب سيطرة أوباما على قواعد البيانات، وكانت هناك قابلية قوية لاختيار المرشحين وإملاء النتائج مسبقاً، وبدا وكأن المرشحين والناخبين على حدّ سواء لم يعودوا طرفاً في الموضوع. وقد يصل معي القارئ من كل ذلك إلى النتيجة التي تفيد بأن الحل الوحيد لهذه المعضلة هو الحرب أو الثورة. وأما أنا فإنني أعتقد أن استنتاجه خاطئ. -------- ينشر بترتيب مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"