انضمت كرواتيا هذا الشهر -يوليو- إلى الاتحاد الأوروبي. وبذلك تكون الدولة الثانية بعد سلوفينا، من الدول التي انبثقت عن الاتحاد اليوغسلافي السابق، التي وجدت طريقها إلى الاتحاد. وتوجد على لائحة الانتظار ثلاث دول أخرى هي : صربيا ومقدونيا والجبل الأسود. وكل هذه الدول تغلب على هويتها المسيحية الأرثوذكسية. وثمة لائحة أخرى تضم دولاً "يحتمل" أن يبحث في طلب انضمامها أيضاً من بين مجموعة دول البلقان هي كوسوفا والبوسنة وألبانيا. ومن الملاحظ أن هذه الدول الثلاث الأخيرة يشكل المسلمون أكثرية سكانها. غير أن هذه الدول الثلاث تعرف أن تركيا على رغم كل مؤهلاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، ومع أنها عضو مؤسس وفاعل في حلف شمال الأطلسي، إلا أنها لم تتمكن من الدخول إلى عضوية الاتحاد الأوروبي لسبب وحيد، أعلنه مسؤولون أوروبيون صراحة، وهو أن المسلمين يشكلون الأكثرية الساحقة من سكانها الذين يزيد عددهم على السبعين مليوناً. لقد ضاقت أوروبا ذرعاً بكثافة الوجود الإسلامي وتناميه في مجتمعاتها. ويترجم هذا الضيق صعود حركات وأحزاب اليمين المتطرف التي تناصب المسلمين العداء وتعتبرهم خطراً على وحدة النسيج الاجتماعي الأوروبي. كما تترجمه سلسلة التشريعات التي اتخذها عدد من الدول الأوروبية وخاصة فرنسا وهولندا التي تفرض قيوداً مشددة ليس فقط على هجرة مسلمين إليها، بل على السلوك الاجتماعي- الديني لمن أصبحوا مواطنين لديها. وكانت مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل قد نعت التعايش بين الثقافتين الغربية والإسلامية في بلادها، الأمر التي أثار ردود فعل واسعة حتى داخل المجتمع الألماني ذاته. يدين مسلمو البوسنة وكوسوفا لأوروبا وإلى الولايات المتحدة بمساعدتهم على التخلص من محاولات الهيمنة التي وصلت إلى ارتكاب عمليات إبادة تعرضوا لها بعد تمزق يوغسلافيا 1991- 1992. فالمسلمون في البوسنة واجهوا منفردين المحنة القاتلة على يد القوات الصربية في عام 1995 بعد أن فقدوا مئات الآلاف من الضحايا. ولولا التدخل الأميركي- الأوروبي لكانت عمليات الإبادة الجماعية (كما تدل على ذلك مجزرة سيبرينتشا) قد ذهبت إلى أقصاها. وقد تمكنت الولايات المتحدة من أن تفرض على صربيا (من خلال محادثات دايتون) تسوية سياسية أقرت بقيام البوسنة الاتحادية وبرفع السكين الصربية عن أعناق أهلها. وفي عام 1999 حدث الشيء ذاته في كوسوفا، إذ إن طائرات حلف شمال الأطلسي تولت قصف المواقع العسكرية الصربية، وقصفت حتى بلغراد ذاتها وفرضت بالقوة العسكرية استقلال كوسوفا. وبمناسبة عيد الاستقلال ترتفع في شوارع العاصمة برشتينا أعلام أميركية احتفالاً بالعيد ربما أكثر من الأعلام الوطنية الكوسوفية، اعترافاً بالجميل. ولكن لا أزمة البوسنة ولا أزمة كوسوفا تنعم بتسوية نهائية. ففي البوسنة لا يزال الصراع حول تداول السلطة بين المسلمين البوسنيين والكروات الكاثوليك والصرب الأرثوذكس يتفجر من وقت لآخر. فالصيغة الاتحادية التي ولدت في اتفاق «دايتون» لا تزال صيغة هشة معرّضة للسقوط في أي وقت. وفي كوسوفا يشكل الجيب الصربي في شمال البلاد الذي يضم أقلية صغيرة مصدر اضطراب دائم. فالمسلمون الكوسوفار الذين يبلغ عددهم 1,7 مليون، يتحدرون من أصول ألبانية شأنهم في ذلك شأن معظم مسلمي البلقان. أما مسيحيو الشمال فيتحدرون من أصول صربية ويتمتعون بحكم ذاتي محلي وبحماية حلف شمال الأطلسي بموجب معاهدة الاستقلال. وهناك مطالب بتقسيم البوسنة بحيث يضم الجزء الأرثوذكسي منها إلى صربيا والجزء الكاثوليكي إلى كرواتيا، وما تبقى يبقى للمسلمين البوسنيين. وثمة مطالب بتقسيم كوسوفا بحيث يفصل الجزء الشمالي الأرثوذكسي عن الدولة ويضم إلى صربيا. كما أن هناك مطالب بتقسيم مقدونيا، بحيث يفصل الجزء الجنوبي بأكثريته الإسلامية عن الدولة ويضم إلى البانيا، وذلك بعد أن تعثرت كل محادثات المشاركة السياسية بين المسلمين والمسيحيين الأرثوذكس الذين يشكلون أغلبية سكان تلك الدولة. ومن هنا يبدو واضحاً أن عملية التجزئة والتقسيم التي بدأت مع سقوط الاتحاد اليوغسلافي لم تتوقف، ولم تصل إلى خواتيمها. فالنرجسيات القومية والدينية المتعددة في البلقان لا تزال حية، بل إنها تزداد حيوية، بحيث إن خريطة المنطقة تتعرض إلى إعادة تخطيط وإلى إعادة تحديد. كان الرئيس اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش يرفع شعار صربيا الكبرى. وقد خاض تحت هذا الشعار حروب إبادة ضد المسيحيين الكاثوليك وضد المسلمين معاً، إلى أن انتهى به الأمر إلى محكمة العدل الدولية، حيث حوكم على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية ومات في عام 2006 وهو في السجن. لم يكن ميلوسوفيتش أول قومي صربي يرفع هذا الشعار ويموت في سبيله. لقد سبقه إليه آخرون تسببوا في نشوب الحرب العالمية الأولى في عام 1914 التي أودت بحياة 35 مليون إنسان. فقد أشعل فتيل تلك الحرب شاب قومي صربي من مدينة سيراييفو -عاصمة البوسنة اليوم- إذ قام باغتيال ولي عهد النمسا الذي كان يقوم بزيارة رعائية رسمية للمدينة. فردت الإمبراطورية النمساوية- الهنغارية بحملة تأديب واسعة للصرب. وانتصر الروس الأرثوذكس للصرب الأرثوذكس فقامت التحالفات الأوروبية التي أشعلت نار تلك الحرب المدمرة، وجرّت إليها دول العالم كلها. لقد وجه إمبراطور النمسا إنذاراً مدته 48 ساعة إلى الصرب، ولكنهم لم يكترثوا. وهو ما حدث عندما وجه حلف شمال الأطلسي الإنذار لهم للانسحاب من كوسوفا ولم يكترثوا أيضاً. فكانت الكارثة في المرتين. وحتى قبل حادثة سيراييفو في عام 1914، اقتحمت في 11 يونيو من عام 1903، مجموعة من 28 جندياً صربياً القصر الملكي في بلغراد وقتلوا الملك ألكسندر وزوجته الملكة دراجا -ولم يكونا من الصرب- احتجاجاً على الموقف السلبي للملك من المشروع القومي الصربي. وقد تمزقت أجسادهما شر ممزق وألقي بجثتيهما عبر شرفة القصر إلى الساحة الرئيسية ومن هناك تولت الجماهير الصربية سحلهما أو ما تبقى منهما في الشوارع، بحيث لم يعد بالإمكان التعرف على أي منهما. لم تتمكن الإمبراطورية النمساوية من تدجين الحركة القومية الصربية. وفشلت الإمبراطورية العثمانية من بعدها في هذه المهمة أيضاً. وخلال العهد اليوغسلافي، وعلى رغم رئاسة الجنرال تيتو الكاثوليكي الكرواتي، فقد تولى الصرب شؤون إدارة الدولة والاقتصاد والجيش على مدى عقود طويلة. ولكن بعد أن سقط الاتحاد اليوغسلافي سقط كل شيء. بدأت عملية اغتيال قومي صربي لولي عهد النمسا، جريمة، وانتهت مأساة. وبدأت عملية حرب البوسنة وكوسوفا مأساة، وانتهت جريمة! ويخشى أن تبقى منطقة البلقان على رغم كل ما تعرضت له من تجزئة وتقسيم، مفتوحة أمام المزيد من المآسي التي تتحول جرائم.. والمزيد من الجرائم التي تتحول إلى مآسٍ. فهل تغير من هذا الواقع المأساوي الانقسامات المتمثلة في قيام الكيانات السياسية الجديدة.. تحت مظلة الاتحاد الأوروبي؟ يحمل الشرق الأوسط بعض الجواب. وهو بالنفي. ذلك أن المنطقة العربية التي قسمها سايكس وبيكو لم تجد في التقسيم حلاً لمشاكلها. وها هي تتعرض اليوم لخطر تقسيمات جديدة على يدي سايكس جديد وبيكو جديد.. ولم تجد في جامعة الدول العربية مظلة تحمي وحدة كياناتها السياسية.