في القرن الماضي صعدت الولايات المتحدة من مرتبة قوة عالمية من الطبقة الثانية، لتصبح القوة العظمى الوحيدة في العالم. وفي الوقت الراهن يخشى البعض من أن يؤدي صعود النفوذ الصيني إلى أفول أميركا خلال هذا القرن- ولكن ليست هذه هي المشكلة. ليست هناك أبداً نتيجة واحدة محتمة لأي أمر من الأمور، وإنما هناك دوماً نطاق من الاحتمالات، وهو ما ينطبق بشكل خاص على التغيير السياسي في الصين. فحجم الصين ومعدل نموها الاقتصادي المرتفع سيؤديان على نحو شبه يقيني لزيادة قوتها مقارنة بالقوة الأميركية. ولكن حتى عندما تصبح الصين هي صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، فإنها ستظل- مع ذلك- متأخرة عن الولايات المتحدة بعقود، فيما يتعلق بنصيب الفرد من الدخل القومي، الذي يعتبر مقياساً أكثر تطوراً على تقدم الاقتصاد. فضلاً عن ذلك، إذا أخذنا مواردنا الهائلة من الطاقة في الحسبان، فإننا سنتوصل إلى أن اقتصادنا سيكون أقل تعرضاً للصدمات الخارجية من الاقتصاد الصيني. ومع أن نمو اقتصاد الصين سيجعلها تقترب أكثر من الولايات المتحدة في موارد الطاقة، إلا أن ذلك، وكما قال ذات مرة رئيس الوزراء السنغافوري «لي كوان يو» لا يعني أن الصين ستتجاوز أميركا كأكبر قوة في العالم. فثقافة الولايات المتحدة القائمة على الانفتاح في جميع المجالات، ستحافظ على منزلتها المركزية في عصر المعلومات الذي تكمل فيه الشبكات- إن لم تحل تماماً محل- السلطة الهيراركية. والولايات المتحدة في موضع مناسب يؤهلها للاستفادة من تلك الشبكات والتحالفات، إذا قام قادتنا باتباع استراتيجيات ذكية. من الناحية البنيوية، من المهم للغاية معرفة أن الكيانين اللذين يمتلكان اقتصادين ونصيباً للفرد من الدخل القومي الإجمالي مماثلاً للولايات المتحدة وهما أوروبا واليابان، هما في الأصل من حلفائها. ومن منظور الموارد التي ترجح قوة من القوتين على الأخرى في ميزان القوى العالمية، تتمتع الولايات بفارق كبير عن الصين في هذا المجال، بشرط احتفاظها بتحالفاتها الحالية وتكاملها المؤسسي. بالنسبة لسؤال الأفول الأميركي المطلق – وليس النسبي- تواجه الولايات المتحدة مشكلات داخلية خطيرة في الديون، والتعليم الثانوي، والانسداد السياسي. ولكن تلك الموضوعات ليست سوى جزء من الصورة. ومن بين أنواع المستقبل الممكنة، يمكن تقديم أدلة قوية ترجح كفة الإيجابي منها على السلبي. فمن ضمن أشكال المستقبل السلبي، يعتبر أكثرها قابلية للإقناع هو ذلك الذي تبالغ الولايات المتحدة بموجبه في الاستجابة لهجمات إرهابية باللجوء إلى الانكفاء إلى الداخل، وعزل نفسها عن مصادر القوة التي حصلت عليها من خلال الانفتاح. ولكن إذا استبعدنا تلك الاستراتيجيات الخاطئة، فسنجد هناك، على المدى الطويل، حلولاً للمشكلات التي تشغل بالنا في الوقت الراهن. بالطبع، هناك احتمال لأن تبقى تلك الحلول، لأسباب سياسية أو غيرها، بعيدة عن متناولنا، ولكن من الأهمية بمكان التمييز بين المواقف التي لا حلول لها، وبين تلك التي يمكن حلها – على الأقل مبدئياً. الأفول استعارة مضللة؛ ومن سوء الحظ أن أوباما قد رفض الاستراتيجية المقترحة المسماة «إدارة الأفول». فالولايات المتحدة باعتبارها دولة قائدة في مجال البحوث والتطوير، والتعليم العالي، وأنشطة ريادة الأعمال، ليست في حالة أفول مطلق، كما حدث على سبيل المثال مع روما القديمة. من منظور نسبي، هناك احتمال معقول لأن تظل الولايات المتحدة، على الرغم من كافة الظواهر السائدة، أقوى من أي دولة أخرى من دول العالم بما فيها الصين بالطبع خلال العقود القادمة. إذن يمكن القول إننا لا نعيش في «العالم ما بعد الأميركي»، كما أننا لم نعد نعيش أيضاً في «العصر الأميركي»، الذي كان سائداً في أواخر القرن العشرين. فمن ناحية الترتيب ستظل الولايات المتحدة «الأولى» ولكن ليست الوحيدة. ليس لدى أحد كرة بلورية ينظر فيها فيرى صورة المستقبل، ولكن مجلس الاستخبارات القومي (الذي شرفت برئاسته يوماً)، قد يكون على صواب في تقدير الاحتمالات الذي قدمه عام 2012، والذي يرى أنه على الرغم من أن اللحظة الوحيدة القطبية قد ولت، فإن الولايات المتحدة ستظل القوة الأولى وسط قوى متساوية عام 2030، وذلك بسبب الطبيعة المتعددة الأوجه، لقوتها وميراثها القيادي. ستتزايد موارد القوة للعديد من الدول، ومن اللاعبين من غير الدول، خلال السنوات القادمة، وهو ما يعني أن قادة الولايات المتحدة سيواجهون عدداً متزايداً من القضايا، التي سيحتاج الحصول على نتائجها المرجوة إلى قوة مع الآخرين، بقدر ما سيحتاج إلى قوة فوق الآخرين. ومقدرة قادتنا على المحافظة على تحالفاتنا وخلق شبكات، ستمثل بعداً مهمهاً من أبعاد قوتنا الصلبة، والناعمة معاً. وإذا أردنا التعبير عن ذلك بعبارات مبسطة، يمكننا القول إن مشكلة القوة الأميركية في القرن الحادي والعشرين لا تتمثل في «أفول» غير محددة نوعيته بشكل جيد؛ كما لا تتمثل في أن نفوذ الصين سيطغى على نفوذها، وإنما تتمثل في «صعود القوى الأخرى». ذلك أن مفارقة القوة الأميركية تكمن في حقيقة أنها، باعتبارها أكبر قوة في العالم، لن تكون قادرة على تحقيق نتائجها المرجوة من دون مساعدة من الآخرين. ــــــــــــــــــــــ جوزيف ناي أستاذ بمدرسة كينيدي للدراسات الحكومية التابعة لجامعة هارفارد ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»