عشر سنوات من عيش العراقيين تحت ظل الاحتلال والحكم الطائفي جعلتهم كالحمام الذي قال عنه الفيلسوف الشاعر جلال الدين الرومي: «يرسم دوائر سماوية عظيمة لحريته؛ يهوي، وفيما هو يهوي تنبت له أجنحة». وعندما تُعلن «القاعدة» في العراق عن مباراة لسباق الحمام الزاجل مع حي في بغداد تسكنه أغلبية شيعية، هل يعني ذلك أن السلام تحقق في العراق؟ تجري المسابقة بين حي «الشعلة»، حيث أغلبية السكان شيعية، والطارمية التي اعتبرتها سلطات الاحتلال من أهم مراكز «القاعدة» في العراق، وهي منطقة بساتين نخيل وحمضيات على ضفاف دجلة، على مسافة ساعة بالسيارة شمال بغداد. تفاصيل المسابقة التي نظمها «نادي الصدرين» في الشعلة يعرضها فيلم في «يوتيوب» يتحدث فيه أبو عصام النعيمي، وهو مربي الحمام الزاجل في الطارمية. وسماء الطير العراقي المعروضة في أفلام «يوتيوب» مفتوحة لا حواجز إسمنتية تفصل بين أحيائها، ولا مواقف سيطرة مسلحة وتفتيش سيارات تعرقل حركتها. وخفق أجنحة الحمام الزاجل في أرجائها نشيد حرية وسلام تشارك فيه مناطق وأحياء تسكنها أغلبية سنية، كالطارمية والأعظمية وباب الشيخ، وأخرى ذات أغلبية شيعية، كالشعلة والكاظمية والكرادة، ومدن عربية، كالسماوة، وكردية كزاخو. وتحلق أسراب الحمام المتسابقة من الفاو في البصرة أقصى جنوب العراق حتى النعمانية جنوب بغداد، حيث قبر الشاعر المتنبي. وفي سباق طويل المدى يقطع 250 طيراً زاجلاً مسافة 700 كلم من زاخو شمالاً حتى السماوة جنوباً. وتصطف على بعد أمتار من الحدود التركية أقفاص الطيور بانتظار إشارة الانطلاق، فيما يُنّكتُ الأكراد على العرب المنكمشين من البرد: «يابا طيوركم ما متعلم على البرد!». وحالما تُفتحُ أبواب الأقفاص تندفع الطيور فرادى، ثم تتجه سرباً واحداً نحو الجنوب، بمحاذاة سلسلة مرتفعات جبلية، وتجتازها مختفية عن الأنظار، ويهتف الأكراد: «عُبرَتْ عُبرَتْ»! وحيثما يعيش عراقيون يعيش الحمام العراقي وتتردد أسماؤه في أفلام «يوتيوب»: الأزرق، والمسكي، والقلّاب، والكومرلي، والصُفُر، وخضراويات. وتُعتبرُ طيور «الحُمُر» البغدادية، عراقية أصيلة، ولونها ليس أحمر بل مخملي يتراوح بين الشوكولاته الداكنة والذهبية، ويزهو بعضها بتيجان بيضاء لؤلؤية، تلتف كالوشاح حول رقابها، وصدرها، وتكسو قوادمها مراوح ريشية بالغة الأناقة، كقفازات العرائس. ورافق الحمام المغتربين العراقيين إلى أقاصي الكرة الأرضية، حيث ترى أسراب منه تحلق في سماء ملبورن بأستراليا، وأوتاوا في كندا، ونبراسكا، وديترويت، وسان دييغو في الولايات المتحدة. وسوق الحمام نشطة في «يوتيوب»، يتبادل عبرها البائعون والمشترون العناوين، وأرقام الهاتف، ورسائل الإعجاب بالطيور، والأغاني. يظهر في أحد الأفلام بائع في أستراليا يؤكد أن طيوره «الحُمُر» عراقية أصيلة مائة بالمائة، ويتحدّى من يكتشف بعد شرائها أنها ليست أصيلة: «إقطع راسها وتعالَ أُخُذْ فلوسك». والأسعار متهاودة، 700 دولار للزوج. و«فلوسها بيها»، كما يقول عراقيون يستعيدون الوطن والحبايب بحمام «الحُمُر» وهي تحلق في سماء ملبورن، فيما تصدح أغنية «يا طير يا مسافر له، وصِّلَّه هذا الكلام، وقُلْ له، الليل أبدْ ما ينام، عشرتنه ما ناسيها كل لحظه أفكر بيها». وحروب الحمام التي تنشب بين هواة الطيور يسميها العراقيون «حُرُبْ»، وهي تُشن عادة بين مربي حمام في أحياء مختلفة، وأحياناً في حي واحد أو جيران. ويشتبك في «الحُرُبْ» أو «يخبط»، حسب تعبيرهم، سربا الحمام، ويتعالى صفير وهتاف المتنافسين، والنصر للسرب أو «الجوقة» كما يسمونها، التي تعود بطيور أسرى انفصلت عن «الجوقة» المنافسة. وإذا كانت العلاقة سيئة بين الطرفين المتحاربين، فاقرأ السلام على الطيور الأسيرة. وتعقبُ ذلك غالباً «حُرُبُ» تتجاوز السماء إلى الأرض. وللطيور الأثيرة أسماؤها. أبو عصام يحتضن بين كفيه «إشبيلية»، ويدعوها «طيره» لأنها أنثى، ويضم سربه طيوراً من بلجيكا التي تُعتبر العاصمة العالمية لتوليد الطيور والتجارة بها. وتصدرت سوق طيورها الأخبار عندما بيع طير بمبلغ 400 ألف دولار، اشتراه مليونير صيني. وحققت مبيعات 530 طيراً في مزاد بروكسيل الأخير 6 ملايين دولار، واشترى الصينيون تسعة من أغلى عشرة طيور. وللطيور تاريخ طويل في الصين، وتوجد حالياً فرقة حمام زاجل في الجيش الصيني تعدادها 10 آلاف، والحمام وسيلة اتصال أمينة قد تبلغ سرعتها 120 كلم في الساعة، وتستخدم في المراسلات والرصد على الحدود البرية والبحرية، خصوصاً حول جبال الهمالايا المنيعة. و«الطيور لا تشدو لأن لديها الجواب، بل لأن لديها الأغنية»، حسب المثل الصيني الذي يعبّر عن علاقة الصينيين الحميمة بالطيور. وتؤكد حكمة الصينيين بحوث علمية عن حميمية طيور الحمام وذكائها. يكشف بحث في «مؤتمر البايولوجيا التطبيقية» في فرنسا عن قوة ذاكرة الحمام وقدرته على التعرف، والتي تبلغ حد تمييزه الأشخاص الذين يسيئون إليه فلا يقترب منهم، حتى وإن أغروه بالطعام، بينما يزقزقُ ويرقص لمن يحبه حتى لو لم يطعمه. ويعرض بحث مدهش في مجلة «ساينس» الأميركية عنوانه «الاتصال بالرموز بين حمامتين»، كيف تتبادل الطيور المدربة المعلومات عن طريق استخدام يافطات ملونة، ترفعها بمنقارها الواحدة للأخرى. «وطيروا ولا تتّخذوا وكراً تنقلبون إليه فإنّ مصيدةَ الطيور أوكارُها وإن صدَّكم عَوَزُ الجناح فتقصّصوا تطيروا فخير الطلائع ما قوي على الطيران». قال ذلك العالم والفيلسوف الموسوعي ابن سينا في «رسالة الطير» التي تعتبر من أشهر نصوصه الفلسفية. وأوحت «رسالة الطير» فيما بعد للشاعر الصوفي فريد العطار بتأليف منظومته الشعرية «منطق الطير» التي رُسمت لها منمنمات ساحرة الجمال منذ القرن الـ15 الميلادي، وترجمت إلى لغات عدة، وأصدرت طبعتها الإنجليزية دار نشر «بنجوين» ضمن مجموعة «أفضل الكتب في التاريخ»، واقتبستها مسرحيات وأوبرات عالمية. عنوان المنظومة مقتبس من آية في القرآن الكريم تقول: «وورث سليمان داوود وقال يا أيُّها الناس عُلِّمنا منطق الطير وأوتينا من كلّ شيء إن هذا لهو الفضل المبين». (سورة النمل). و«منطق الطير» منظومة شعرية صوفية في 4600 بيت، تعبّر عن المحنة الروحية للعرب والمسلمين بعد الاجتياح المغولي، وسقوط بغداد عاصمة الإمبراطورية العباسية في القرن الثاني عشر للميلاد. وتصور المنظومة قصة رمزية عن الرحلة المهلكة للطيور بحثاً عن مليكها الذي يرمز إلى الحقيقة؛ رحلة مملوءة بشكوك وتساؤلات، يتولى الإجابة عنها شيخ الرحلة الهدهد الحكيم. وترمز الطيور إلى أنواع البشر، كالعندليب، والعصفور، والطاووس، والبطة، والبومة، والصقر، وتمثل أعذارها عن مواصلة الرحلة التماس الناس الراحة وسلامة البال. وفي نهاية الرحلة المهلكة يكتشف ثلاثون طيراً بقوا بالكاد على قيد الحياة أن المليك هم أنفسهم «بلا زيادة ولا نقصان. فهذا هو ذاك، وذاك هو هذا، وما سمع أحد قط في العالم بمثل هذا».