من يعاين النظر في الحرب والمؤسسة العسكرية يخرج ببضعة أفكار أعرضها على ضمير القارئ. لقد جاء في كتاب «في سبيل ارتقاء المرأة» لروجيه جارودي (ص 31): «وهكذا تفهم المؤسسة العسكرية أكثر المؤسسات تميزاً في النظام الذكوري، التي تعتبر نموذجاً لجميع المؤسسات الأخرى، وهي تقوم على الطاعة غير المشروطة، وتنتزع من الإنسان بعده الإنساني الخاص، أي ذلك البعد المتسم بالاستقلال الواعي والمبادرة والمسؤولية، والذي بدونه لا يكون التجمع الإنساني الخاص، إنْ لجهة ابتكار أشكال جديدة للحياة، أو حتى لجهة الدفاع بالمعنى الحصري كالمقاومة أو حركات التحرير التي لا يمكن تصورها بدون نظام مقبول، بحرية ومجازفة وتضحية يختارها الفرد. والجيش بذلك هو النموذج الأصلي المحتذى لجميع الأشكال الأخرى للتفويض واستلاب المسؤولية. إن هذا الاختراع الذكوري المحض يقوض بمقتضى المبدأ نفسه الذي تقوم عليه كل إمكانية حقيقية للدفاع، أي الدفاع عن استقلال الشخص الإنساني ضد أي اقتحام خارجي، أو أي اضطهاد داخلي. والدولة بالمطلق ليست إلا تعميم الصلة العسكرية بين السيطرة وخنق استقلال الشخص الإنساني على جميع مظاهر التنظيم الاجتماعي الأخرى. إن مركزية العنف العسكري هي نموذج لجميع أشكال المركزية الأخرى: الأبوية والبيروقراطية والإدارية والبوليسية وحتى التربوية والثقافية. والتنظيم المدني الخانق للمجموعات الكبرى، ليس إلا التعيير المدني عن الثكنة، شأنه في ذلك شأن الجامعة أو الكلية ذات الأصل النابليوني، وهي كلها حسب فكرة مؤسسها تؤمّن الموظفين والضباط، كما تؤمـن -في غياب أية فكرة- التكنوقراطيين والبيروقراطيين. تلك هي النهاية المحتمة للثقافة التي لم تدرها إلا نصف الإنسانية فقط، أي النصف الذكوري». ويُقَيِّم المفكر الفرنسي المشهور فولتير ظاهرة الحرب على الشكل التالي: «ساعة أكلمكم ثمة مائة ألف مجنون يلبسون القبعات، يقتلون مائة ألف حيوان آخر في سبيل بضعة أكوام من الوحل العظيم... ولا يتعلق الأمر إلا بأن نعرف أينتمون إلى رجل لقبه سلطان أم قيصر» (عن كتاب «هذه هي الحرب» لجاستون بوتول، ص: 22). وضمن ظاهرة الطاعة والإذعان يحدث أمر عجيب، فتحت كلمة «أوامر» تهجم مجموعة مسلحة على أخرى لا تعرفها ولم تجتمع بها من قبل، فيفتكون ببعضهم دون أي رحمة، وهو ما لا تفعله الذئاب، كما دلت على دراسات العالم الانثروبولوجي كونراد لورنتز حول صراع الحيوانات وكونها لا تفتك ببعضها حين يصل الصراع إلى النهاية. فالذئب المهزوم يستسلم في النهاية ويكشف عن عنقه للغالب، فيعامله بكل شهامة، وبدل توجيه ضربة من فم مفتوح لعضه، يدفعه بفم مغلق علامةً على نهاية الصراع. أما البشر فيقتلون فقط لأن «الأوامر» جاءتهم! وهو ما علل به النازيون في الحرب العالمية الثانية كل الجرائم التي قاموا بها، إذ كانوا يكررون بدون ملل: «كان علي تنفيذ الأوامر، كل ما فعلته تنفيذ الأوامر التي صدرت لي، حاكموا من أصدر الأوامر). لكن الأوامر هي سلسلة يشترك فيها الطاغية من أعلى نزولا إلى أصغر جندي. كان النازي «هوس» الذي تولى عمليات الإبادة الجماعية في معسكر «آوسشفيتز»، والذي كشفت قرارات المحكمة الألمانية طرفاً من حجم المأساة فيه، ينفذ الأوامر الصادرة إليه من «هملر»، رئيس الجستابو. ومن الغريب أن القاتل والمقتول في هذه المذبحة المروعة، لو اجتمعا خارج الميدان لتبادلا التحية والكلام والضيافة، فكيف يقتل إنسان إنساناً آخر لم يعرفه من قبل، ليس بينهم أحقاد، ولا ثأر سابق؟ كيف يحدث هذا الشيء بهذه البساطة؟ حقاً أن الإنسان كان أكثر شيء جدلا!