أخيراً تم إسدال الستار على أهم وأكبر المحاكمات التي شهدها القضاء الإماراتي، والتي ارتبطت بتهم انتماء مجموعة من المدانين إلى تنظيم محظور بموجب القانون، هو تنظيم الإخوان المتأسلمين، والذي حظره القانون الإماراتي بسبب تعارضه مع كل القيم والأعراف الإسلامية والمجتمعية التي لا تقرّ إظهار الفرد أو التنظيم خلاف ما يبطن، أو التلوّن بلونين، لون ظاهري مرئي للعين، وآخر مظلم يتم إخفاؤه قدر المستطاع. فالشعارات الدينية البراقة رفعها التنظيم في الداخل بغرض خداع الناس بها، والإيقاع بهم في حبائل بيعته «المرشدية» المريبة التي تفكك في أعماق من ينتمي إليها، كافة الولاءات الوطنية، وترسم أمامه فقط وهْم دولة الخلافة الإخوانية التي تعبؤه لدرجة استعداده لتقديم حياته وقوداً لوهم تلك الدولة التي لا توجد في غير أفكار وأقوال الجماعة، ودون أدنى نقاش أو تفكير، فيتحول من بشر كرّمه الله في الأرض، إلى آلة موجهّة أشبه بالروبو الذي يشبه في تركيبته الهيئة البشرية ويؤدي الكثير مما تؤديه من وظائف، لكنه لا يملك العقل الذي يمكنه من التمييز بين نفع الفعل وضرره، ومشروعيته وأغراضه ومختلف جوانبه. وبجانب انتمائهم لهذه الجماعة المحظورة، كانت تهمة إنشاء خلية محظورة والشروع في تأسيس جناح عسكري، من التهم التي صدرت بموجبها الأحكام، بالإضافة إلى التخابر وتسلم الأموال من جهات أجنبية والإساءة للدولة وأجهزتها ورموزها، وما إلى ذلك من تهم تناقلتها وسائل الإعلام، كانت نتيجتها الطبيعية هذه الأحكام العادلة التي قابلها الشارع الإماراتي بارتياح كبير، وتمكّن القضاء الإماراتي فيها من تسجيل هدف آخر في مرمى دروسه المتوالية التي لقّنها لمختلف المؤسسات العدلية العالمية بانتهاجه مدرسة الشفافية المطلقة التي قلّ أن توجد في أيّ مؤسسة عدلية في العالم، ساعده على ذلك ما جسده المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مع إخوانه مؤسسي الاتحاد، طيّب الله ثراهم جميعاً، وما تبعهم عليه خلفاؤهم من بعدهم، في الإيمان الصارم بدولة القانون التي لا تتدخل السلطات الحاكمة في قراراتها، ويمتثل لأحكامها الحاكم والمحكوم. وأكّد القضاء الإماراتي عبر ما أعلنه من أحكام نافذة بحق هذه الجماعة، والمتراوحة بين البراءة والسجن، كامل حرفيته، ورباطة جأشه، وصلابة تمسّكه بالقانون، فقد تعرّض لضغوط إعلامية هائلة شككت في نزاهته، وحكمت بفساده حتى قبل أن تعرف حكمه، ودون أن تقيم أية براهين أو أدلة على تلك الادّعاءات، وفي الجانب المقابل ضغط إعلامي شعبي كبير بضرورة إنزال أقصى العقوبات بمن تثبت خيانته للوطن، وكل من يثبت تورطه في السعي للإضرار بالنهضة، والنيل من مكتسبات المجتمع، لكنه (القضاء الإماراتي) كان يعمل بصمت، واقتصرت تصريحاته فقط على تبيان الحقائق تأكيداً لنهج الشفافية المفرطة، وها هو ذا يصدر الأحكام التي أجمع المراقبون والمحللون على نزاهتها، وعدم تأثّرها بأي ضغط إعلامي، أو مؤثرات خارجية. أجنحة العدل الأخرى بجانب القضاء، والتي لعبت دوراً محورياً في تسطير أهم فصول تاريخ هذه القضية، كجهاز الأمن الوطني والشرطة والنيابة، كانت كلها على مستوى الحضور الأنيق للمفردة العدلية الإماراتية التي شكّلت أهم فصول مدرسة زايد البنائية التي أنتجت دولة بحجم وثقل وقوة الإمارات العربية المتحدة، فالعمل الحرفي المتمسك بصرامة القانون كان النهج الأبرز في التعامل مع هذه القضية، وهو ما أثار جنون التنظيم الإخواني الأكبر الذي كان ينتظر أن تتصرف هذه الأجهزة بذات المستويات والطرق التي تتصرف بها الأجهزة الإخوانية الموازية أينما وجدت، وهو ما جعلهم يبنون حملتهم الاستهدافية على ذات السيناريو والنمط الذي ألِفوه، ويستعجلون بإعلان الاستهداف، غير أن هذه الأجهزة انتهجت ذات نهج الجهاز القضائي، وتعاملت مع الأمر بتجاهل شديد، وهو ما جعل التنظيم الإخواني المتأسلم يرفع باضطراد وتيرة تصعيده حتى يتمكّن من استفزاز هذه الأجهزة وإثارتها وجرّها لأخطاء يتمكن عبرها من التدليل على بعض سيناريوهاته الاستهدافية التي أعلنها، غير أن هذه الأجهزة كانت تعرف جيداً ما الذي تريد فعله، وما الذي يجب فعله، ورغم أن النيابة على سبيل المثال قد قدمت عرضاً للأدلة الواضحة على توصياتها والتي لا تقبل الشك والجدل، إلا أنها تعرضت لحملة هجوم تشكيكية عنيفة ليس لها ما يبررها، وكان الغرض الأساسي من استهداف النيابة داخل وخارج المحكمة هو تشتيت الانتباه عن الأدلة الدقيقة التي بذلت النيابة دون شك جهوداً جبارة في تجميعها. أما جهاز الأمن الوطني فكان أكثر الأجهزة العدلية تعرضاً لرشقات الاستهداف، وذلك لارتباطه المباشر بكشف القضية وفضح أسرارها، وقد تعامل بذات الأسلوب الصامت الذي تعاملت به بقية القطاعات العدلية، رغم أن الاتهامات التي طالته تمرحلت بطرق تطورية غريبة، فقد اتهموه في بداية الأمر بأنه جهاز قمع وتعذيب، ثم عادوا واتهموه بالخطف والبلطجة! ثم نكصوا على أعقابهم وأطلقوا عليه أمن السلطة، وهو وصف غريب في بلد كالإمارات، حيث تتمثل إحدى الخصوصيات الرئيسية في أن السلطة للشعب وأن الحكام هم رموز هذه السلطة وحماتها. فالتوطين المتواصل في كل مواقع الدولة الرسمية وشبه الرسمية وكثير من الخاصة، هو تمكين للشعب لممارسة سلطته الوظيفية، وإيجاد أماكن العبادة وبناء المساجد ومدارس الدين هو تمكين المواطن لممارسة سلطته العقائدية، وعلى هذا النهج ينبغي أن يقيس من يريد أن يفك رموز شفرة مدرسة زايد البنائية التي أنتجت الدولة. ومع مباركتنا لمن شملتهم البراءة وتمنياتنا لهم بحياة أفضل وهم ينخرطون مع مجتمعهم في دفع مسيرة عجلة النهضة، فإن المدانين يجب عليهم الآن الجلوس مع أنفسهم، وتشكيل محاكم ذاتية خاصة لا تدخل فيها الدولة التي حاكمتهم بموجب القانون، ولا التنظيم الذي تخلى عنهم بعدما أوصلهم لهذا الحال الذي ما كان يجب أن يكون، ويقومون بجرد حساب مع ذواتهم لتقرير ما إن كانوا على حق أم لا؟ هنا لا يحتاجون نيابة ولا قضاءً ولا شهوداً وأدلة ومرافعات وجلسات، لكن الحقيقة عند المقارنة بين كل أطراف القضية ستفتح الباب دون شك على عالم جديد على الأقل في داخل النفس والعقل والقناعات.