العالم بجغرافيتهِ وسكانهِ من البشر يرسمون دولاً متفاوته في حجمها الجغرافي وعدد سكانها ومواردها وصناعاتها، وبشكل عام متفاوتة ومختلفة في قدراتها المادية والبشرية والمعرفية وفي طموحها أيضاً. فالدول بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت بتفاوت واختلاف كبير بين بعضها البعض، فهناك دول عظمى لديها مساحات شاسعة وقدرات عسكرية مدمرة وقوة صناعية ومعرفية هائلة، وكما لها نفوذ الإمبراطورية مثل الولايات المتحدة واتحاد روسيا، كما أن الدول الكبرى لها نفس خصائص الدول العظمى لكنها أقل وليست لها الطابع الإمبريالي مثل الصين. وفي التصنيف الثالث، تأتي الدول القوية التي لها قدرات صناعية وعسكرية، ومساحة جغرافية أقل من الدول الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان. وهكذا يتناقص حجم الدول من المساحة الجغرافية إلى القدرات الصناعية والبشرية والمعرفية من دول متوسطة إلى صغيرة وصولاً إلى الدول الصغرى ذات المساحة الجغرافية الصغيرة. وقد تكون دول ضعيفة لها مساحات الدول القوية لكن ليس لها القوة الصناعية والنوعية البشرية. رغم هذه الهرمية بين الدول والتي لها أثرها الكبير في العلاقات الدولية، فإن العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية بفضل الولايات المتحدة الأميركية جعلت العالم في علاقات دولية هي أفضل علاقات بين الدول والأمم منذ فجر التاريخ، حيث يوجد حيز كبير للعلاقات بين الدول بغض النظر عن حجم الدول، حيث توجد علاقات تجارية وصناعية وأمنية لها طابع الاحترام والاعتماد المتبادل بين دول هي مختلفة ومتفاوتة في قدراتها من الموارد الطبيعية والصناعية والمعرفية. حقيقةً هناك تجاوزات للدول العظمى والكبرى ولكنها محدودة. من واقع أن الدول تحتاج إلى بعضها البعض في كل شي في الصناعات والمعرفة والأمن، تأتي الدول الصغرى كفاعل مهم مثله مثل الدول المتوسطة والقوية، فسويسرا مهمة في المال والصناعات «كالأدوية والساعات»، وهنا تكون مثل الدول القوية في هذا الجانب. وهناك دول كثيرة في دائرة الدول الصغرى مثل هولندا والدنمارك، وفي الدول العربية، نجد أن الكويت التي كانت لها قوة في سياستها الخارجية قبل الغزو إضافة إلى قوتها الناعمة الحاضرة في الفنون، والتي لها أثر كبير على منطقة الخليج، وكما أن انفتاح الكويت منذ ستينيات القرن المنصرم جعل البعض يطلق عليها باريس الخليج. لعل قطر كالدول الصغيرة التي نستطيع القول إنها دولة كانت وما زالت فاعلة بنوع من الإثارة والجرأة في السياسة الخارجية منذ قدوم الشيخ حمد بن خليفة آل ثان للحكم في عام 1995، حيث استطاعت أن تخلق من نفسها فاعلاً، لطالما أزعج دولا عربية كانت تريد من نفسها الريادة في السياسة الخارجية والحضور الدولي. فقد حققت قطر إنجازات في تكوين قوة ناعمة لها، كما تحسن الأداء الاقتصادي الاستثماري، إضافة إلى الحضور الإقليمي والدولي في السياسة الخارجية. «القوة الناعمة» لقطر تمثلت في قناة «الجزيرة» والتحرك الدبلوماسي المرن، فقناة «الجزيرة» تعتبر أداة سياسية طورتها قطر في إطار خلق قوة ناعمة مؤثرة على المستويين الإقليمي والعالمي. فهذه القوة الناعمة عكست دوراً مهماً لقطر في الإعلام العربي والدولي، فنشرت برامج القناة بشكل رهيب حتى بعض الدول حاولت فتح إعلامها وخلق قنوات مشابهة لـ«الجزيرة». أجل هذا العمل مميز ومبدع، وإن كان مسيساً لخدمة الحضور القطري الإقليمي والدولي مثله مثل السينما والمسرح المصري. فمن يستطيع القول إن السينما المصرية لم تسيطر عليها الحكومات المصرية، ولم تستخدم لدعم مصر في مختلف فتراتها وظروفها من عبد الناصر حتى السادات وصولاً لمبارك، فعلى سبيل المثال فيلم الناصر صلاح الدين وفيلم الكرنك، فهذان الفيلمان خدما مصر عبر تمجيد عبد الناصر في الأول وفضح نظامهُ المتسلط لصالح السادات في فيلم الكرنك، الذي عكس فساد جهاز المخابرات بقيادة صلاح نصر، إضافة إلى أفلام ومسلسلات ومسرحيات وأغان ليس لها الطابع السياسي نشرت اللهجة والفكر المصري وكانت سبباً في السياحة والحضور المصري في الثقافة العربية. أما القوة الاقتصادية، فتملك قطر ثالث أكبر احتياطي للغاز في العالم مع قدرة إنتاجية من النفط تصل إلى مليون برميل يومياً، وهذه القدرة الاقتصادية كانت سبباً في رفاهية المجتمع القطري من خلال كل ما تطرحهُ السياسة العامة من خدمات عامة متعددة ومن مشاريع البنية الأساسية، كما أن هناك استغلال بناء للثروة القطرية في خلق الصناديق الاستثمارية السيادية منها والخاصة، والتي لها مردود كبير على الاقتصاد القطري في الحاضر والمستقبل. كما أن البعد الاقتصادي لقطر كان له دور في دعم حضورها الدولي، ومثال ذلك محاولة موسكو تشكيل منظمة لمصدري الغاز على غرار منظمة «أوبك»، التي لو تأسست لكان لها دور في تحديد سعر الغاز. فقد استثمرت قطر بكثافة فيه وقدمت نفسها كمركز للتجارة الدولية والأعمال، وكانت مضيفة سخية للاجتماعات والمؤتمرات الدولية، ومركزاً للرياضة والتعليم والترفيه. ومن بين الإنجازات العالمية الأكثر وضوحاً استضافتها محادثات منظمة التجارة العالمية في عام 2001، والتي أطلق عليها جولة الدوحة، واستضافة دورة الألعاب الآسيوية والعربية، والفوز باستضافة كأس العالم لكرة القدم في عام 2022. لعبة المصالح والحضور الدولي، من منطلق أن كل دولة تسعى لحماية أمنها وخلق قوة وحضور لها، فليس غريباً أن تكون قطر قد استغلت الفرص في تحقيق ذلك بصورة براجماتية. فقد استطاعت الدوحة قراءة أمن الخليج بعد الغزو العراقي للكويت في عام 1990، حيث خلقت علاقات قوية جداً مع الولايات المتحدة، والتي تعتبر عاملاً مهماً في استقرار الخليج، وهذه العلاقات أثرت على العلاقات مع السعودية، التي كانت أكثر اختصاصاً في العلاقة مع واشنطن. وبدأت العلاقة بين الدوحة وواشنطن محوراً مهماً في أمن واستقرار الخليج. فالدول الصغيرة تكون مرنة ونشطة في مواقفها، فقد حققت قطر حضوراً في صراعات عدة مثل دارفور و«حماس» و«فتح» وحركة «طالبان» واستقرار أفغانستان، كما في دعم سوريا فيما كان يسمى محور الممانعة ثم دعم الثورة ضد النظام السوري، وأيضاً كان لها الدعم الإعلامي والمادي في «الربيع العربي»، أجل العلاقات الدولية بمثابة ساحة للاعبين يدعمون الأمن والسلام وأيضاً لهم في جوانب أخرى مصالح وأهداف، قد تكون براجماتية. الأمير الشاب وقطر المستقبل، تكون في كثير من الأحيان الحكمة شابة، وذلك يقودنا إلى أن قطر تستطيع أن تكون فاعلة ومتطورة، ولو أخذنا الجانب السياسي، فقد دعمت قطر الأحزاب الإسلامية في دول «الربيع العربي» من منطلق أن هذه الأحزاب ستنجح في السلطة، وسيكون لها أثر كبير على الساحة الإقليمية العربية والدولية بطبيعة الحال، ولكن أيضاً ربما يكون مصيرها الفشل، وقد تكون هذه رؤية الأمير الشاب التي سيتجه إلى تخفيف الدعم والتأييد للأحزاب الإسلامية. ومن استشراف الغد، ربما تكون قطر فاعلة في تلاقي سياساتها وتوجهاتها مع دول مجلس التعاون وتحديداً الإمارات، والتي بدورها كانت رصينة في سياساتها تجاه أمن الخليج واستقرارهِ، ولعل الزيارة الأخيرة لسمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي، إلى قطر ولأميرها الشاب دالة على ذلك. فكل الإنجازات السابقة من الاقتصاد والقوة «الناعمة» والحضور الإقليمي والدولي منذ قدوم الأب الشيخ حمد بن خليفة ستكون دافعاً لاستمرار الأمير الشاب في جعل قطر دولة نموذجية وفاعلة للدول الصغيرة في التنمية والحضور الإقليمي والدولي.