ماذا يعني أن يتابع ملايين الفلسطينيين الشاب المبدع محمد عساف ابن خان يونس في قطاع غزة في برنامج «عرب آيدول» على شاشة «ام بي سي» كل أسبوع، ويديرون ظهروهم لكل تلفزيونات حركتي «حماس» و«فتح» وما يحتويه إعلامهما من مهاترات؟ ماذا يعني أن يكون أقل عدد زوار أي مقطع لكل أغنية من أغنياته على اليوتيوب أكثر من مليوني زائر، وبعضها تجاوز الخمسة ملايين، أي أكثر من عدد المصوتين للحركتين معاً في انتخابات 2006؟ وماذا يعني أن تكون خلفيات المصوتين له شاملة وعامة لكل طيف الشعب الفلسطيني: في الداخل، من الضفة والقطاع وفلسطين المحتلة عام 1948، وفي الخارج حيث يتواجد الفلسطينيون، وكذلك على اختلاف انتماءاتهم الدينية والثقافية والسياسية: مسلمون ومسيحيون، مسيّسون وعازفون عن السياسة؟ وماذا يعني أن تتجاوز أعداد المصريين المشاركين في التصويت في حلقات «عرب آيدول» مجموع من صوّت لمرسي في انتخابات 2012؟ وما هو المغزى العميق في قراءة الخلفية الثقافية والدينية والاجتماعية لملايين المصوتين الذين يمثلون طيف الشعب المصري، بعيداً عن الاستقطاب الديني والتعصب المذهبي والتشظي المجتمعي الذي سببه ذلك التعصب في بلداننا؟ وماذا يعني أن يتابع أكثر من ثلاثة ملايين شخص موالاً كتبه ولحنه وغناه المتسابق السوري عبد الكريم حمدان عن مدينته الجريحة حلب على اليوتيوب، ونفس العدد أو أكثر يتابع بقية أغانيه في البرنامج؟ وماذا يعني أن يطرب الملايين أيضاً لغناء الشابة الكردية برواس بالعربية ويستمعون إليها بالملايين على الشاشة وعلى مواقع الإنترنت؟ برنامج «عرب آيدول» لاكتشاف المواهب الغنائية يطرح في الواقع أسئلة عميقة ثقافية سوسيولوجية ويثير الكثير من التأملات التي يجب أن يتوقف عندها المهتمون بالشأن العام وخاصة قادة الأحزاب الدينية وغير الدينية، والإشارات المكثفة هنا عن تسييس الدين، سواء أنتجته دول أم حركات، لأنه هو المُتهم بجلب الاستقطاب والتعصب المذهبي والطائفي الذي يدمرنا الآن. النجاح الكبير للبرنامج، والمتمثل في مستويات المشاهدة المذهلة، يدلل على الهجرة الجماعية عن قنوات الأخبار المسيسة، والقنوات الدينية، وعن كل البث الإعلامي الذي ظن كثيرون أنه قد استقطب الشريحة الأكبر من العرب ويؤثر في تشكيل مزاجهم ويقولب ثقافتهم. هل بالإمكان الاستنتاج من ذلك والقول إنه رغم كل الضخ السياسي والإخباري وأنباء الحروب الدامية، أو ربما بسبب فيضانها، فإن ظاهرة النزوح العام عن الفضائيات الإخبارية، تعني نزوحاً مشابهاً عن الأحزاب السياسية، وعن الجماعات الدينية، وعن كل ما دأب على تشتيت وتفتيت المجتمعات العربية؟ في برنامج «عرب آيدول» يلتقي مواطنو كل بلد عربي ويساندون مرشحهم بالمؤازرة والتصويت، يتوحدون في شكل وحدة وطنية يفتقدونها في بلدانهم التي تعاني من الاستقطاب والتعصب الذي جاء به تسييس الدين وتوظيفه والتمترس خلف التفسيرات المتطرفة التي تقضي على التعايش. في معظم البلدان العربية اليوم يبدو المشهد الثقافي السوسيولوجي الديني بالغ البؤس، حيث التطرف ينهش من اللحم الحي فيها، ويقضي على مساحات الحياة المشتركة، ويُحاصَر الناسُ بموجات تديين كل ما له علاقة بالحياة العامة والفردية، وحيث تتدخل جحافل مفتيي التلفزيونات في كل طرائق تنفس الناس ونومهم. وفي الرد على هذا الاختناق المتزايد، والتصحير المخيف للحياة، تدير عشرات الملايين من الناس ظهرها لكل ذلك وتعلن رفضها لكل من يريد التحكم في رقابها، وتتمسك بمنطقة التعايش الوسطى وتدافع عنها. بقاء هذه الكتلة العريضة في الوسط وتحديها لكل تيارات التطرف، وتعاليها عن نداءات التعصب، وشمولية تمثيلها لمكونات مجتمعاتها، هو عملياً خط الدفاع الأخير عن وحدة هذه المجتمعات وهويتها الجماعية وشعورها بالانتماء. ليس هناك أدنى مبالغة في القول الآن، على سبيل المثال، إن محمد عساف يحقق من الناحية الرمزية وحدة وطنية فلسطينية حقيقية وعابرة للانتماءات، ويخدم إحساس الفلسطينيين بهويتهم الجماعية أفضل من كل ما تقوم به «حماس» و«فتح» مجتمعتين! أو بالأحرى هو يرمم ما دمرته الحركتان! الاستقطاب السياسي، وضمنه الديني، الذي جره الانقسام الفلسطيني على هوية وثقافة الفلسطينيين، عمل ولا يزال على تدمير المشتركات بينهم، خاصة مع هوس «حماس» بأسلمة الفضاء العام، وسلفنة قطاع غزة بشكل مباشر أو غير مباشر، ومراقبة «منسوب رجولته»! ومن منظور أوسع، يعود الفن والغناء ليثبتا ما هو مثبت لجهة الطاقة التوحيدية الهائلة العابرة للاستقطابات. وإن أردنا التأمل في ذلك عربياً، لنا أن نذكر أن أم كلثوم كانت أحد أهم عناوين العروبة الثقافية رغم كل الحروب العربية السياسية الباردة منها والساخنة، وأن فيروز هي التي رسمت صورة لبنان الجميل الموحَّد والعابر للطوائف والتي يطرب لها كل اللبنانيين بغض النظر عن خلفياتهم، وأن الشاب خالد، ومعه فن الراب والراي، ربط كل جزائريي المهجر والداخل بهوية وطنية ثقافية تتجاوز كل انقسامات الحرب الأهلية ونداءات التشظي العربي الأمازيغي، وأن محمد عبده في السعودية يدندن لـ«أماكنه المشتاقه» حجازيو ونجديو وشرقيو المملكة، ويديرون ظهروهم للتعصب الطائفي وكل إكراهاته وتقسيماته للمجتمع. في «عرب آيدول» يتحدث العرب إلى العرب من مشرق إلى مغرب على أرضية الفن ويغنون معاً ويطربون لذات الأغاني. بعيداً عن أرض الفن تلك، لا نجد سوى الانقسامات الطائفية والاتهامات والاستقطابات. في برامج الفن والأدب والغناء هناك لغة عربية وسيطة تقرب بين اللهجات، ترقى بها من ناحية، وتبتعد بها من ناحية أخرى عن تقعر لغة الأخبار والخطابات الدينية المتعالية المنفصلة عن الناس. يقدم لنا «عرب آيدول» وبقية برامج الفن والأدب والغناء تحدياً وأطروحة بالغة العمق وبحاجة إلى تأمل كبير وسط التشظي المرعب الذي نعيشه، وذلك على النحو الآتي: هل أصبح الفن والغناء هما خط الدفاع الأخير عن الوحدة الوطنية في كل بلد عربي؟ وهل أصبح الفن والغناء هما خط الدفاع الأخير عن العروبة الثقافية؟